Author

الصحافة الأمريكية وأكل العشب الذابل

|
أستاذ جامعي ـ السويد
تذكرت مسرحية شعرية قصيرة لكنها جميلة ومليئة بالمعاني والحكم وأنا أقرأ التغطية الإعلامية الكبيرة التي حظيت بها سرقة بسيطة لا تتجاوز قيمتها عشرات الدولارات من مخزن في الولايات المتحدة.
لم يكن بودي تخصيص مقال مفصل عن هذه السرقة لولا شغفي بقصائد أمير الشعراء أحمد شوقي خصوصا التي يسرد لنا فيها مواقف إنسانية وحكما نبيلة على ألسنة الحيوانات.
لن أقول مزيدا عن هذا الشاعر المبدع والكبير لأنه غني عن التعريف.
هناك اهتمام كبير في الصحافة الأمريكية بأي سرقة معروضات في المخازن، حتى لو كانت رزمة خبز، يجري الكشف عنها. هذه السرقات والقائمون بها يحتلون الصدارة في الصحافة ليس المحلية، بل حتى الوطنية وكذلك تصبح مادة دسمة للتلفاز.
ومن النادر أن ينجو السارق بجلده، أي: يتم التعامل مع المسألة بطريقة إنسانية عادلة. العقوبات صارمة، قد تصل إلى أشهر في السجن، هذا عدا ما يرافق التغطية الإعلامية الكبيرة من انتهاك للحرمة الشخصية حيث يتم تصوير الشخص القائم بالسرقة ونشر ليس اسمه، بل أيضا الفيديو الذي وثق السرقة.
وفي عالم معلومات غير محكم ويفتقر إلى أخلاقيات العمل، يبدأ الفضاء المسموم "للسوشيال ميديا" بالتركيز على الحدث، انطلاقا في أغلب الأحيان من مواقف متحزبة ومتعصبة وفئوية.
لا أعلم لماذا يلهي الإعلام الأمريكي الذي نقدمه لطلابنا كنموذج للموضوعية والنزاهة، عن السرقات التي تقوم بها الشركات الكبيرة، ويصب جام غضبه على شخص استقل دراجة هوائية وبسرعة رفع عدة أجهزة كهربائية من مخزن تحوم حوله كاميرات المراقبة.
ولا أعلم لماذا يتصور الصحافي الذي حصل على الفيديو الذي يصور السرقة أنه حقق سبقا كبيرا. من ناحية قد يكون محقا في تصرفه والتباهي بالإنجاز والسبق لأن القصة انتشرت مثل النار في الهشيم في الإعلام الأمريكي.
ونحن الباحثين والمختصين في الإعلام نراقب بدقة أداءه وتغطيته لشؤون يبرز فيها ميلان الكفة، بمعنى آخر لماذا كل هذا التركيز على سرقة معروضات من مخزن وفي وضح النهار وأمام الملأ والكاميرات؟
ومن ثم، لماذا لا يركز الإعلام على سرقات تقدر بمليارات الدولارات لشركات كبيرة تراكمت نتيجة هضمها حقوق العاملين فيها؟
وكذلك، لماذا تغض الصحافة الأمريكية عموما الطرف، أو ترفض التركيز على سرقات عندما يكون القائمون بها أصحاب شأن وسطوة؟
وقد قام مركز أبحاث أمريكي بدراسة هذه الظاهرة، وكانت النتيجة مدهشة ومخيبة للآمال.
أظهرت الدراسة التي قام بها المركز أن حدثا وقع في حزيران الماضي حيث رفع شخص بضاعة من مخزن وخرج دون دفع القيمة، أي: التحايل من أجل السرقة. هذا الحدث بالذات لاقى من الاهتمام والتركيز ما لم يكن في الحسبان.
حسب الدراسة، كتبت الصحافة الأمريكية أكثر من 300 تقرير حول الحادث، بينما في الوقت ذاته كان هناك عمال يقاضون شركة كبيرة على أنها سرقت منهم أكثر من 15 مليار دولار، ذلك بإجبارهم بطرق ملتوية على العمل ساعات إضافية دون أجر.
لم يكترث الإعلام لهذه السرقة الكبيرة، ولم يعر التسوية المهينة التي لم يحصل بموجبها العمال إلا على الفتات أي أهمية تذكر.
التسوية لم تنصف العمال أبدا، لكن لم تودع الشرطة أي منفذ في الشركة السجن أو تحاسب أيا من المسؤولين فيها، بينما الذي رفع بضاعة غير ذات قيمة كبيرة من مخزن وهرب بها بدراجته الهوائية، ألقي القبض عليه وهو لا يزال خلف القضبان لأكثر من ستة أشهر.
وهنا وبعد قراءة معمقة خصوصا للدراسة التي قدمها مركز دراسة الأبحاث الإعلامية حول تغطية السرقات، تذكرت أمير الشعراء أحمد شوقي.
تذكرت خصوصا قصيدة "شريعة الغاب" التي يفلت فيها المفترسون والماكرون من الحيوانات مثل الأسد والنمر والدب والذئب والثعلب من أي عقاب تستحق عليه أعمالهم لكسب عيشهم في الغابة مهما كانت عواقبها.
الحيوان الوحيد الذي لم يفلت من العقاب كان الضعيف فيهم الذي ليس في إمكانه الافتراس والمكر، وهو الحمار.
وما كان ذنب الحمار؟ الحمار وجد عشبا ذابلا وطريحا في ساحة الدير وأكل منه لأن الجوع كاد يقتله.
ويختم شاعرنا الفذ مسرحيته الشعرية القصيرة هذه بحكمة رائعة، كما هو شأنه قائلا: "إن الفتى إن كان ذا بطش مساوئه شريفة".
إنشرها