Author

جودة الحياة في 11 معيارا

|

يستخدم تعبير جودة الحياة لبيان صفة يتطلع الإنسان الفرد إلى توفيرها لنفسه وأسرته، وتهتم مؤسسات الأعمال بتأمينها للعاملين فيها، وتسعى الدول إلى تحقيقها لمواطنيها والمقيمين على أرضها. ولأن أصل التعبير وارد من اللغة الإنجليزية، فالترجمة جودة الحياة ليست الترجمة العربية الوحيدة، فهناك ترجمات أخرى أيضا، مثل: رفاهية الحياة، والحياة الحسنة، والحياة المرضية، وربما غير ذلك. وعلى أي حال، وأيا كانت ترجمة التعبير، فهناك معايير أساسية لهذه الصفة يطلب تحقيقها، ثم هناك مستويات عدة لمدى تحقق كل من هذه المعايير. أي إن صفة جودة الحياة تتحقق بوجود المعايير، لكن مدى تحقق هذه المعايير يكون مختلفا، وقابلا للقياس من خلال مقياس يشمل مستويات متعددة. يهتم هذا المقال بطرح مشهد معايير جودة الحياة، فتوافر هذه المعايير يعني التمتع بحياة مرضية تتحقق فيها البيئة اللازمة المحفزة للعطاء والتقدم وتحقيق الطموحات للأفراد، وكذلك للدول المختلفة. وفي طرح هذا المشهد، سنبين المعايير الـ 11 التي وضعتها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية لتحديد متطلبات جودة الحياة. وتتمتع هذه المنظمة بمكانة دولية خاصة، حيث تلقب بنادي الدول الغنية، وتم إنشاؤها في مطلع الستينيات من القرن الماضي، وتضم في عضويتها حاليا 38 دولة من مختلف قارات العالم، لكن أغلبها من الدول الأوروبية. وفي إطار صفات هذه المنظمة، نجد من المتوقع أن تكون معايير جودة الحياة التي تطرحها معايير مرتفعة، تتضمن معظم الخصائص الرئيسة المطلوبة لهذه الجودة.
تشمل معايير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الـ 11 الخاصة بجودة الحياة التالي: الوظيفة، والدخل، والسكن، والتوازن بين العمل والحياة، والأمان، والرضا في الحياة، والصحة، والمشاركة في الحياة المدنية، والبيئة، والتعليم، والتفاعل الاجتماعي. فمن يتوافر له ذلك، فهو يعيش حياة تتمتع بالجودة، لكن مدى توافر هذه المعايير يكون بمستويات مختلفة، كما أسلفنا. ويعتمد ذلك ليس فقط على معطيات بيئة الحياة التي يعيشها الإنسان والفرص والنشاطات المختلفة من حوله، لكنه يعتمد أيضا على طموحات الإنسان وجده واجتهاده، وحسن تعامله مع ما تتيحه هذه البيئة. وسنحاول فيما يلي إلقاء بعض الضوء على كل من هذه المعايير الـ 11.
إذا بدأنا بمعيار الوظيفة، نجد أن هذا المعيار ضرورة لحياة الإنسان، فهو ليس فقط مصدرا للدخل؛ بل أيضا وسيلة تبرز قيمة الإنسان، وتمكنه من العطاء، وتحقيق ذاته. وفي هذا الإطار، لا بد للوظيفة، كي تحقق هذا الأمر أن تكون منتجة ومفيدة للآخرين، سواء اقتصاديا أو اجتماعيا، أو ربما الاثنين معا. ويرتبط معيار الدخل بمعيار الوظيفة، فالوظائف المنتجة تأتي بالدخل المناسب، وتسهم في تأمين معايير جودة الحياة الأخرى، وهي لا تعود بالفائدة على أصحابها فقط؛ بل تنعش البيئة الاقتصادية للدولة صاحبة العلاقة.
وعلى أساس ما تقدم، فإن إيجاد مثل هذه الوظائف ضرورة للتقدم، ويحتاج هذا الأمر إلى أهل الإبداع والابتكار في جانب، وإلى أهل الاستثمار، وربما رأس المال الجريء في الجانب الآخر. ويسعى كثير من الجامعات إلى الإسهام في جمع مثل هذين الطرفين عبر حدائقها وأوديتها التقنية، لتستطيع بذلك، ليس فقط تخريج المؤهلين؛ بل تخريج مؤسسات تقنية ناجحة. وتجري رعاية مثل هذه المؤسسات عادة قبل إطلاقها فيما يعرف بحاضنات التقنية.
نأتي إلى معيار السكن، وهو معيار مهم من معايير جودة الحياة. وهناك دراسات قدمت نتائج مفيدة في هذا المجال، ربما نعود إليها في مقال مقبل. وعلى سبيل المثال، فقد أبرزت دراسة سابقة لمشاريع سكنية في بعض الولايات الأمريكية أن مثل هذه المشاريع، تحسن أداء طلاب، وبالطبع طالبات المدارس والجامعات، من أسر المستفيدين من هذه المشاريع، وتؤدي إلى أمان أكبر في البيئة المحيطة، فضلا عن أنها تؤدي إلى تحسين الحالة الصحية العامة للسكان.
ونصل إلى المعايير الثلاثة التالية: التوازن بين العمل والحياة، والتفاعل مع المجتمع، والرضا في الحياة. وهذه معايير لا ترتبط بالمعايير سابقة الذكر الوظيفة والدخل والسكن فقط؛ بل تتعلق بجانب العلاقات والنشاطات الاجتماعية داخل الأسر وفيما بينها، ووسائل الترفيه الشخصية والجماعية، وسعادة الإنسان في تعامله مع من حوله. وفي هذا المجال، هناك دليل دولي، يحتوي على مؤشرات مختلفة حول السعادة انطلق سابقا مملكة بوتان الصغيرة الواقعة جنوب آسيا، قرب الجانب الشرقي من جبال الهملايا. ثم هناك دراسة أجرتها جامعة هارفارد الأمريكية على مدى عقود، كانت نتيجتها أن العلاقات الاجتماعية الحسنة بين الناس سبب رئيس للحد من المرض، وإطالة أعوام الحياة، بمشيئة الله.
ويبقى أمامنا خمسة معايير أخرى لجودة الحياة ترتبط بالمعايير السابقة مؤثرة فيها ومتأثرة بها من ناحية، وتتعلق بالخدمات والإجراءات الحكومية الممكنة لبيئة جودة الحياة. هناك في هذا الإطار معيار الأمان المتعلق بإجراءات الحماية والعدالة. ثم هناك معيارا الصحة والبيئة، حيث تعد العناية الصحية الممكن الرئيس لنشاطات الإنسان وحيويته، كما ينظر إلى المحافظة على البيئة على أنها متطلب أساسي لحماية الصحة. ويبرز بعد ذلك معيار التعليم وهو معيار التمكين المعرفي للإنسان الذي يجعله قادرا على الإبداع والابتكار ومنافسة الآخرين، وبناء مستجدات غير مسبوقة. وهو متطلب مهم لمعيار المشاركة في الحياة المدنية كي تكون هذه المشاركة فاعلة ومفيدة.
يمثل مشهد المعايير الـ 11 المطروحة في هذا المقال رؤية مهمة لجودة الحياة صادرة عن منظمة دولية تتمتع بالتميز. هناك بالطبع تفاصيل أخرى كثيرة يمكن طرحها في إطار هذه المعايير وبناء مؤشرات وأدلة تمكن تقييمها في إطار الأفراد، وعلى مستوى الدول. ويأخذ بعض الأدلة الدولية مثل ذلك في الحسبان ضمن معايير تراها مناسبة، مثل دليل الابتكار العالمي، ودليل تنافسية النبوغ العالمي. وإذا كان هناك من كلمة أخيرة، فهي مزيد من البحث في معايير جودة الحياة، والسعي إلى تقييمها، وتطوير معطياتها.

إنشرها