سياسة المالية العامة والنمو الاقتصادي
نتيجة لتراجع النمو طويل الأجل الناشئ عن صدمات أسعار النفط في السبعينيات آنذاك، انخفض عدد الدول الحذرة وزاد عدد الدول ذات الوفرة الاقتصادية. وخلال الثمانينيات والتسعينيات، ارتبطت الجهود الرامية إلى ضبط أوضاع المالية العامة المدفوعة جزئيا بارتفاع أسعار الفائدة العالمية بوجود موازين أولية أقوى وزيادة في عدد الدول التي وجد أنها انتهجت سياسة حذرة. وأدت الأزمة المالية والاقتصادية العالمية التي بدأت عام 2008 إلى تعرض موازين المالية العامة لأكبر وأعم تدهور يحدث في وقت السلم على مر التاريخ. وحدث تراجع حاد في عدد الدول الحذرة. وفعليا، تشير البيانات إلى أنه في حالة الدول التي وجد أنها كانت حذرة في سياساتها المالية العامة عموما إلى حين بداية الركود الكبير "بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية وإسبانيا"، أدت استجابة سياسة المالية العامة للأزمة التي تضمنت زيادة الإنفاق الحكومي وخفض حصائل الضرائب إلى ترجيح كفة الإسراف خلال الفترة 2009 ـ 2011 في حالة الولايات المتحدة، وفي عام 2010 في حالة إسبانيا". وبالنسبة لدول أخرى، مثل فرنسا واليابان التي اتسمت سياسات المالية العامة لديها بالإسراف قبل عام 2008، فقد أدت استجابتها للأزمة إلى تدهور موازينها الأولية مع زيادة مستويات الدين.
وتبين قاعدة البيانات الجديدة أيضا أن السلوك يتغير. فالبلد لا يظل حذرا أو مسرفا إلى الأبد. وتماما مثلما تتغير الدول نتيجة وقوع تطورات سياسية أو اجتماعية أو مؤسسية أو اقتصادية تتغير كذلك درجة حذرها أو إسرافها في سياسة المالية العامة.
وتعني هذه الملاحظة البسيطة ضمنا أنه لا ينبغي لصانعي السياسات والجمهور بوجه أعم اعتبار وجود عرف راسخ لدى بلد ما باتباع سياسة حذرة في المالية العامة من المسلمات، وفي المقابل، فإن استمرار بلد ما في اتباع سياسة مسرفة في المالية العامة ليس قدرا محتوما إذا اتبع ذلك البلد التدابير التصحيحية المناسبة.
والدرس الذي يمكن أن تستخلصه الدول من هذه النتائج واضح، وهو أنه سيكون لقرارات السياسة التي تتخذها في المستقبل القريب أثر دائم في وضع المالية العامة لديها في الأجل الطويل. ويواجه معظم الاقتصادات المتقدمة تحديات كبيرة في مجال المالية العامة. وقد دفع ارتفاع تكاليف الاقتراض بعض هذه الاقتصادات بالفعل إلى الاضطلاع بعملية كبيرة لضبط أوضاع المالية العامة. وتقوم الاقتصادات الأخرى حاليا بتعديل أوضاعها بوتيرة أبطأ لدعم التعافي المبدئي مع محاولة الحفاظ على ثقة الأسواق في التزامها طويل الأجل بتوخي الحذر في سياسة المالية العامة. أما مسألة ما إذا كان سيحكم على هذه الدول بأنها حذرة أو مسرفة بعد عدة أعوام من الآن فتعتمد على قرارات سياسة المالية العامة وكذلك على مدى استئناف النمو الاقتصادي طويل الأمد.