Author

خيارات صعبة بعد أزمة الانسحاب الأمريكي من أفغانستان

|
أستاذ جامعي ـ السويد
وأنت تقرأ في الصحافة الغربية، سترى أن مفردة "الأزمة" أو "اللحظة الحاسمة" أو "الخيارات الصعبة" تتردد على الدوام، وعلى الخصوص لدى كتاب الرأي ذوي الباع الطويل والمؤثر.
في مقال هذا الأسبوع، سأدلو بدلوي، مغادرا الاستناد إلى ما تنشره الصحافة العالمية، ومركزا على لماذا صار الانسحاب الأمريكي الفوضوي من أفغانستان نقطة تحول في تاريخ البشرية المعاصرة؟ وكيف ولماذا أصبح العالم الغربي برمته أمام خيارات صعبة؟
وكذلك سألقي بعض الضوء على الخيارات المتاحة أمام الدول الخليجية،. هذه الدول، وإن لم تكن معنية بصورة مباشرة أو حتى غير مباشرة بأحداث أفغانستان، فإن تبعات الانسحاب أو بالأحرى "فشل أو اندحار" التحالف الغربي بقيادة أمريكا - حسب توصيف الصحافة الغربية ذاتها - فإنها لا بد أن تلحقها التبعات.
وكعادتي، وآمل ألا أثقل على قرائي، أرتكز على فلاسفة علوم اجتماعية، وفي مقدمتهم المفكر الإيطالي أنطونيو جرامشي، الذي لا أظن يغيب عن بال أي باحث في شؤون السلطة والقوة والهيمنة في المجتمعات الإنسانية.
وجرامشي أيضا حاضر بقوة لدى محللي الخطاب أصحاب النظرة النقدية لشؤون الحياة المتناثر في الأطر اللغوية، التي نستخدمها، أحيانا في تنسيق متعمد، وأحيانا دون تحكم أو إرادة منا.
في الشرح، الذي قدمه جرامشي في أهم ما تركه لنا وهو كتابه المعنون "مذكرات السجن" The Prison Notebooks، هناك إشارات واضحة تفسر لنا ظاهرة التوقف عن النمو من الناحية الإنسانية وخطورة ذلك على المجتمعات البشرية.
ويؤكد جرامشي أنه كلما زادت هيمنة المؤسسات والنظم الاجتماعية "والحكومات مؤسسات ونظم"، ضعفت قابليتها على إحداث التغيير الذي يؤدي بدوره إلى نمو ظواهر إنسانية جديدة تلبي متطلبات التطور الفكري والاجتماعي.
ويقول إن أي أفكار أو مفاهيم أو نظم لا بد، أن تصبح قديمة بالية غير قابلة لتحقيق المصلحة العامة، وعندما تخفق المؤسسات المهينة على الإتيان بما هو جديد، تبدأ أصناف عديدة من الأعراض الاجتماعية السقيمة بالظهور.
تركزت فلسفة جرامشي وعلى الخصوص مفاهيمه في أعلاه على ما سيحصل للمجتمعات عندما تخفق في مسعاها لتوليد ما هو جديد كي يحل محل القديم تلبية للحالة الاجتماعية، التي لا تقف عند ظاهرة محددة، بل هي في نمو وتطور وتغيير مستمر.
كان جرامشي، وهو ماركسي الهوى، قد قضى نصف عمره في السجن بسبب نشاطه ضد الفاشية، يحلل ما ينتظر النظم، التي تتقوقع على نفسها ولا تقبل التغيير لتحكم أيديولوجية محددة في سلوكها تقف حائلا بينها وبين ولادة جديدة تقيها سقم التقوقع.
والبقاء حبيس جدار أيديولوجيا محددة، أي الدوران في فلك اعتقاد أو فكر أو تصور محدد رغم عدم مشروعيته وواقعيته، سيؤدي إلى نتائج وخيمة أطلق عليها جرامشي "الأعراض السقيمة أو المروعة" morbid symptoms.
لا أعلم لماذا تخطر فلسفة جرامشي ببالي كلما أعيد شريط الانسحاب الفوضوي من أفغانستان، ومن ثم أكرر مع نفسي هل يعقل لم يقرأ أي مسؤول في أمريكا كتاب "مذكرات السجن"، أم هل يعقل أن ليس هناك في الغرب من قرأ جرامشي؟.
بيد أنني لا أظن أن الأمور كانت ستختلف حتى إن كان كتاب جرامشي على الطاولة الشهيرة في المكتب البيضاوي في البيت الأبيض، أو على منضدة أي مؤسسة أو نظام غايته القوة والسطوة والهيمنة. جرامشي يجعل مقاومة الولادة الجديدة سمة رئيسة لنظم الهيمنة.
فرغم المأساة والخسائر المهولة والخيبة والانكسار التي رافقت "الحرب ضد الإرهاب" في العقدين الماضيين، من العسر في مكان حصول "ولادة جديدة" لتغير المسار صوب الأفضل، بل هناك تشبث بالأعراض السقيمة ذاتها.
وما نشاهده حاليا من توجه جديد في السياسة الدولية وتحالفات لوقف ما يسمى المد الصيني، يبرهن فرضية جرامشي من أن القوة المهينة لا تتعظ من تجارب الماضي رغم أن الماضي قد مات، لأن لا ولادة جديدة لها.
وهكذا، فإن ما يقع حاليا لا يتجاوز تكرارا لسياسات الرئيس السابق دونالد ترمب في هذا المضمار. ليس ذلك فحسب، بل اجترارا لسياسات الحرب الباردة لاحتواء الاتحاد السوفياتي السابق.
في الخليج، وفي إطار مجلس التعاون لدول الخليج العربية، نرى ديناميكية لا تنقلب على القديم، بل محاولة ولادة جديدة تبني عليه.
وهذا ما نلاحظه بوضوح، حيث هناك مسعى جاد للتعامل مع أي من الأعراض "السقيمة" للقديم في طريق الولادة الجديدة، وهذا جلي في السعودية في إطار سياسات الانفتاح على الأصعدة كافة من اجتماعية وثقافية وفنية وتربوية وتعليمية حتى سياسية.
وفي إطار الاقتصاد، وهو المضمار الأهم، نلحظ توجها جديدا لتوطين الصناعة والتكنولوجيا والتشغيل وتقليل الاعتماد على الريع النفطي.
وفي السياسة الخارجية، كان لتصدر المملكة قائمة موردي النفط للصين، بالنسبة لي في أقل تقدير، ضمن إطار فلسفة "الولادة الجديدة" كي تحل محل كل ما هو بال وخارج سياق الظاهرة الاجتماعية للعقد الثالث من القرن الـ 21.
والفكر والتحليل النقدي لمفكرين من أمثال جرامشي وهورخيمر، والدعوة إلى إشغال وإعمال العقل، التي يدعو إليها الذكر الحكيم، كانت ولا تزال من الثيمات الأساسية، التي رافقت مقالنا الأسبوعي.
لا أدعي أبدا أن ما سطر في هذه الصفحة كان له أثر أو حبة خردل من الأثر، في "الولادة الجديدة في المملكة، ولكن إن كانت الأعمال بالنيات، فوالله هذه كانت نيتنا وهذا كان أملنا، ونحن سعداء لأننا أصبحنا قاب قوسين أو أدنى من تحقيقه، وما التوفيق إلا من الله".
إنشرها