Author

ثقافة هذا العصر .. تفعيل الابتكار

|

نشرت "الاقتصادية" في الصفحة السابعة من عددها الصادر يوم الخميس التاسع من أيلول (سبتمبر) 2021 خبرا، عن موضوع الابتكار يستحق الاهتمام. يتضمن الخبر قولا للرئيس الألماني فرانك ولتر شتاينماير Frank-Walter Steinmeier أدلى به خلال زيارة له لستوكهولم عاصمة السويد الدولة الصغيرة المتميزة تقنيا والواقعة شمال أوروبا، والعضو في الاتحاد الأوروبي. يطرح قول الرئيس الألماني دعوة إلى أوروبا وبلده ألمانيا، مفادها ضرورة التحرك بسرعة أكبر، وإقدام أفضل، فيما يتعلق بالابتكارات. وهو كسياسي محنك لا يوجه لوما إلى الوضع القائم، حيث يقول: "لا تنقصنا الإرادة"، لكنه، في الوقت ذاته يطرح الحاجة إلى العمل بشكل أفضل. ولا شك أن هذا القول يعبر عن قلق كامن من ابتكارات الآخرين، وتهديدها لمكانة أوروبا، كما يعبر أيضا عن توجه في مواجهة ذلك يقضي بتفعيل قدرة أوروبا على الابتكار والمنافسة، والمحافظة على مكانتها، وربما الارتقاء بهذه المكانة أيضا.
لعل المثير في الخبر السابق هو أن أوروبا التي قدمت ابتكارات كثيرة غيرت طبيعة حياة الإنسان حول العالم، وكانت المهد الأول للثورة الصناعية، تجد نفسها اليوم أمام تحدي ابتكارات الآخرين، الذي يفرض عليها أن تراجع نفسها، وتسعى إلى تفعيل ابتكاراتها. ولعل هنا لا بد من ملاحظة أن تحدي الابتكار في هذا العصر هو تحد يواجه العالم بأسره، وليس أوروبا فقط، وعلينا حيث لا ينقصنا الطموح، إدراك ذلك، والتوجه نحو تفعيل الابتكار، وتعزيز الاستثمار فيه، والاستفادة من معطياته.
ينطلق الابتكار من التفكير، وبالذات التفكير الموجه نحو البحث عن فكرة قابلة للتطبيق عبر أسلوب يتم تحديده، ثم عبر التطبيق الفعلي للفكرة وتقديم قيمة متميزة يمكن الاستفادة منها. وقد تكون فكرة الابتكار جديدة وغير مسبوقة، كما قد تكون موجودة يتم تجديدها وتوجيهها نحو التطبيق. وفي إطار الموضوعات، قد تكون الفكرة تقنية، تقدم منتجا تقنيا أو وسيلة إنتاج تقنية، كما قد تكون إدارية أو اجتماعية تقدم حلولا تحمل قيمة متميزة لمشكلات إدارية أو اجتماعية. على هذه الأسس، يمكن القول: إن الابتكار فكر وتمكين وعمل، حصيلته قيمة يمكن أن تسهم في التنمية وتعزز استدامتها.
يحتاج تفعيل الابتكار في أي مجتمع من المجتمعات إلى جعله جزءا من ثقافة المجتمع. وثقافة المجتمع كما عرفها عالم الاجتماع الشهير إدوارد ب. تايلور Edward B. Taylor عام 1871 هي "جملة من المكونات التي تشمل المعرفة، والمعتقدات، والفنون، والأخلاق، والتشريعات، والأعراف، وأي إمكانات وعادات يكتسبها الإنسان في مجتمعه". وبناء على ذلك يحتاج جعل الابتكار، بجوانبه الفكرية وتوجهاته التطبيقية نحو البحث عن قيمة متميزة ومفيدة، جزءا من ثقافة المجتمع، إلى بنائه في صلب مكونات المعرفة والإمكانات والعادات التي يكتسبها الإنسان. ولا شك أن هذا الأمر ليس سهلا، لكنه ممكن بالقناعة والإرادة وتضافر الجهود بين جهات التأثير في هذا المجال.
تشمل جهات التأثير في بناء الابتكار ضمن ثقافة المجتمع جميع وحدات المجتمع، أي: الأسرة، والهيئات التعليمية، ووسائل الثقافة والإعلام، ومؤسسات القطاعين العام والخاص، والجهات القادرة على الاستثمار، وغير ذلك من مكونات المجتمع. مطلوب من هذه الجهات تفعيل التفكير لدى أبنائها ومنسوبيها والمقصود بذلك التفكير الذي يقدم أفكارا قابلة للتطبيق لتعطي من خلاله قيمة متميزة يمكن الاستفادة منها. في هذا الإطار نجد على كل أسرة أن تفسح مجال التفكير والابتكار لأبنائها، وعلى هيئات التعليم ألا تعتمد التعليم التلقيني فقط، بل تجعله تفاعليا يحث على التفكير. صحيح أن التعليم التلقيني يفسح المجال أمام تقديم مادة علمية أكبر في المقررات المختلفة، لكنه يعيق قدرات التفكير والاستيعاب العميق للمادة العلمية المعطاة.
وتستطيع وسائل الثقافة والإعلام تقديم إسهامات مهمة في بناء الابتكار في ثقافة المجتمع، عبر ما يمكن أن تقدمه من معطيات فكرية، وما يمكن أن تقيمه من مسابقات عامة تدعو إلى تقديم أفكار ابتكارية تتصف بالصفات سابقة الذكر في موضوعات تقنية وغير تقنية تتمتع بالأهمية للمجتمع، وتثير الحماس لدى المشاركين. ويمكن لوسائل الثقافة والإعلام ألا تقصر نشاطاتها على وسائطها الخاصة، بل تنقل هذه النشاطات أيضا إلى وسائل التواصل الاجتماعي التي باتت واسعة التأثير في قطاع واسع من أبناء المجتمع.
ويمكن لمؤسسات القطاعين العام والخاص أن تسهم في بناء الابتكار في ثقافة المجتمع، عبر تشجيع منسوبيها على تقديم أفكار مبتكرة، كل في إطار تطوير عمل المؤسسة، سواء كان العمل خدميا أو إنتاجيا. ويذكر في هذا المجال ما كان يقوم به الراحل جاك ويلش Jack Welsh عندما كان مديرا تنفيذيا لشركة جينرال إليكتريك GE، واستطاع إنقاذ شركته من مشكلاتها الاقتصادية. فقد كان يطلب من منسوبي الشركة، في لقاءات دورية، تقديم أفكار قابلة للتطبيق لتطوير منتجاتها وإدارتها، وكان يكافئ من يقومون بذلك بنجاح.
ولعل من المناسب هنا طرح ملاحظة مهمة بشأن بناء الابتكار في ثقافة المجتمع. فلهذا البناء فائدة مستقبلية جليلة في مواجهة التقدم المطرد لمعطيات الذكاء الاصطناعي. فهذه المعطيات ستؤدي، وربما بدأت ذلك بالفعل، إلى إحلال الآلة محل الإنسان في مختلف الوظائف ذات الطبيعية الروتينية، لكنها لن تستطيع تنفيذ هذا الإحلال في الوظائف الإبداعية الابتكارية. وقد يجد الإنسان نفسه في المستقبل بلا عمل ما لم يتمتع بثقافة تعززها القدرة على الابتكار. ففي هذه القدرة حماية للمستقبل، فوظائف الإنسان في المستقبل لن تكون روتينية، بل ستكون فكرية إبداعية ابتكارية.
لا شك أن تحدي الابتكار والمنافسة الذي يشهده العالم قضية مهمة من قضايا العصر الذي نعيش فيه. وإذا كان هناك حل للتعامل مع هذه القضية فهو بناء الابتكار في ثقافة المجتمع. ولا تعود مسؤولية هذا البناء على جهة بعينها، بل هي موزعة على مؤسسات المجتمع بأسره، بدءا بالأسرة، ثم التعليم والثقافة والإعلام، وصولا إلى الجهات المهنية في القطاعين العام والخاص.

إنشرها