رأس المال الاجتماعي .. ثقافته والإنتاجية
رأس المال الاجتماعي مسمى يعني باختصار: طبيعة التعاون بين الأفراد والجماعات والمنظمات. هو البناء الاجتماعي والقيم المدنية والعلاقات والتوجهات داخل مجتمع بعينه. هذا الرأسمال والبناء في أي مجتمع مؤثر في إنتاجية الفرد والمجتمع. لذا فإن دراسته تفيد في التعرف على قيمة وفعالية العلاقات الاجتماعية ودور التعاون والثقة في تحقيق الأهداف الاقتصادية.
جودة رأس المال الاجتماعي لا تنحصر في الجوانب المادية فحسب، بل تمتد إلى ما يعد تعاونا شاملا على ما فيه نفع المجتمع. بتعبير أعم التعاون على البر. قال سبحانه: "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ" الآية. ويفهم من ذلك أنه ينبغي على أفراد المجتمع الإسلامي أن يكونوا متآلفين متعاونين لما فيه الخير والنفع لمجتمعهم. كل هذا مؤثر في الأداء الاقتصادي. كيف؟ من خلال طبيعة العادات والموروثات الاجتماعية المؤثرة في طبيعة العلاقات بين أفراد المجتمع. ذلك أن هذه الأمور مؤثرة في مستويات استغلال موارد الاقتصاد. والاستغلال الأمثل لموارد الاقتصاد مطلب جوهري لتحقيق التنمية الاقتصادية. استغلال أمثل ينتج مزيد أعمال وأرزاق، بتوفيق الله.
الموارد تتركز في أربعة: الوقت والأرض ورأس المال البشري ورأس المال المادي. رغبات الناس في هذه الموارد بلا حدود. ذلك أن الله - سبحانه - قد زين للناس حب الدنيا. لكن الله خلق هذه الدنيا وما فيها من موارد بحدود. أي: إنها ليست متاحة بلا حدود، ولو كانت متاحة بلا حدود لما واجه البشر مشكلة اقتصادية أصلا. وتبعا، لما كانت لجودة الاستغلال أهمية.
جودة استغلال الموارد لا تحدث هكذا من تلقاء نفسها؛ بل لها - بعد توفيق الله - أسباب وعوامل تجعل تحققها محصلة لها. تنمية القدرات البشرية عامل مهم وركزت عليه الرؤية، وهذه التنمية تشمل مهاراتها وتشمل أيضا كيف تتعامل مع بعض.
لا بد أن تتزامن مع جهود الاستغلال جهود تعمل على نفي أو على الأقل إضعاف موانع ومعوقات جودة الاستغلال. وهذا يشبه ما عبر عنه علماء الشريعة، وأصول الفقه خاصة، بتحقق الأسباب والشروط وانتفاء الموانع. أي: تحقق الشروط لا يكفي إذا لم يتحقق انتفاء الموانع.
أجريت بحوث كثيرة ليست في تخصص بعينه؛ بل تجمع بين عدة تخصصات اجتماعية، وأعطت مقترحات بشأن مستوى العلاقة بين النمو الاقتصادي ورأس المال الاجتماعي.
وتتزايد الإثباتات التي تبين أن رأس المال الاجتماعي أمر حاسم في تطور المجتمعات وازدهارها الاقتصادي، كما أنه مؤثر في فعالية ونجاح المنظمات عامة، خاصة عبر التأثير في رضا وأداء الأفراد داخل منظماتهم.
وأساس الأمر أن إرادة الأفراد في أي مجتمع للتعاون فيما بينهم على أساس ثقة متبادلة، هذه الإرادة تظهر لها أهمية في تفسير كفاءة المؤسسات، والأداء الاقتصادي للمجتمعات الحديثة التي تطورت فيها كثيرا مفاهيم الحقوق، واعتبارات المواطنة. وهناك عدد من الآليات التي من خلالها بين كيف تؤثر القيم المدنية في الأداء ذي الطبيعتين الاقتصادية والاجتماعية.
اتساع بنية الثقة داخل المجتمع يعمل على خفض تكاليف الصفقات في الاقتصاد السوقي. كما يعمل على تخفيض أو تقليل عبء الوزن أو الثقل الميت/المهدر من جراء فرض ورقابة تطبيق ما اتفق عليه داخل وحدات المجتمع سواء كانت أفرادا أو منظمات. وتحفظ أو تعمل على تخفيف أضرار ما يمكن أن يحدث من سرقات وغش وخداع ونحو ذلك. ومن ثم، فللواحد أن يجادل مستندا إلى قوة في مجادلته أن الثقة تعمل بقوة على تسهيل العلاقات الاقتصادية والاجتماعية.
عمل عدد من علماء في تخصصات اجتماعية/اقتصادية على لفت الانتباه إلى العلاقة بين المبادئ المدنية أو الحضارية والأداء الاقتصادي.
من أشهر من لفت الانتباه إلى هذه العلاقة الباحث بوتنام، ونشرته جامعة برنستون الشهيرة عام 1993. هذا اللفت للانتباه جاء بعد دراسة تطبيقية عميقة أجراها على مناطق إيطالية ناقش فيها الربط بين القيم المدنية التي يشكل فيها رأس المال الاجتماعي عنصرا أساسيا والتنمية الاقتصادية الاجتماعية. ويرى أن الظروف المدنية/الحضارية مثل حقل مغناطيسي قوي، تبدو متدرجة، لكنها في الوقت نفسه تعمل على دفع الظروف الاجتماعية الاقتصادية إلى توافق. ومن ثم لوحظ أن التحديث الاجتماعي الاقتصادي مرتبط جدا ببنية المجتمع المدني.
آخرون قالوا: إن إنتاجية أفراد المجتمع ترتبط بالتنمية الاقتصادية الاجتماعية أكثر من القيم المدنية ورأس المال الاجتماعي. هؤلاء لا يلغون تأثير الأخير، لكنهم يرون أن هناك مبالغة في أهميته.
عملت دراسات خلال العقود الأربعة الأخيرة عن العلاقة بين رأس المال الاجتماعي والإنتاجية فالنمو الاقتصادي بأخذ عينات من دول كثيرة، ربما تصل إلى عشرات الدول، استنادا إلى أكثر من بناء نظري مختار للنمو الاقتصادي. وبينت تلك الدراسات وجود أهمية لا تنكر، وتبقى الخلافات في فهم تفاصيل هذه الأهمية.
والنقاش ما زال مستمرا حول قدر أهمية رأس المال الاجتماعي والثقافة المجتمعية، وكيفية تحقيق ما يمكن تحقيقه منها، للتأثير الإيجابي في قدرات وإنتاجية الأفراد والمنظمات الحكومية وغير الحكومية.