Author

صور ناطقة من أفغانستان

|
أستاذ جامعي ـ السويد
الصور التي حصلنا عليها من أفغانستان ستبقى في الذاكرة ربما مدى الدهر. والصورة رسالة ناطقة، وقد يكون لوقعها وصداها وتأثيرها أضعاف ما تحدثه آلاف الكلمات.
وشخصيا صار بعض اللقطات تؤرقني، لا بل تحتلني، وأنا أحاول قراءتها مع تشغيل العقل. وإعمال العقل معناه علينا أن نفكر بعقل نقدي، أي أن نحاول قدر الإمكان وضع عواطفنا وذاتيتنا جانبا، وتحليل الصورة بعين مجردة بعض الشيء كي نستطيع سبر أغوارها.
وضع خط تحت عبارة "بعض الشيء" لأنه ليست هناك عين مجردة 100 في المائة. كل عين لها صاحب، وكل عين ترى الصورة لأول وهلة بعقل صاحبها.
متى نرى الصورة وما وراءها وما تكتنفه من معان مضمرة لا تراها عيننا المجردة؟ فقط عندما نعمل العقل ونشغله بطريقة نقدية.
وأي نقد إن لم يثر أسئلة أدواتها "لماذا وكيف ومن وما" ويسلط الضوء عليها بموضوعية مقبولة لن يخرج من باب وجهة نظر غايتها الإقناع أو التبشير.
كيف ولماذا ينسحب (ينهزم) أعتى الأقوياء في التاريخ البشري من بلد أغلب سكانه لا يزال حافي القدمين؟.
ما قصة الكلاب التي استقدمها الغرب إلى أفغانستان ومن يملكها؟ في بريطانيا صارت قصة إنقاذ 200 كلب تعمل مع الجيش البريطاني وترك مئات من الأفغان وعائلاتهم الذين تعاونوا مع هذا الجيش وراءهم في العراء رغم المخاطر تحتل الصدارة في الصحافة.
كيف نحلل ونقرأ صورة كلاب تجلس مسترخية على مقاعد طائرة في طريقها لمغادرة أفغانستان، بينما عشرات أو ربما مئات الآلاف من الأفغان من المتعاونين مع الجيش الأمريكي وحلفائه تركوا في أرض المطار وقد غطت أقدامهم مياه المجاري؟.
ولماذا تأخذ قصة 200 كلب تركهم الجيش الأمريكي لمصيرهم في المطار كل هذا الكم الهائل من التغطية في الصحافة الغربية، وكأن ما حدث هو انتهاك خطير لحقوق الإنسان؟.
وما الذي يجعل الناس تخاطر بحياتها إلى درجة الموت في سبيل الهرب من الوطن كما حدث مع شخصين على الأقل، حيث تشبثا بعجلات طائرة غربية وهي في طريقها لمغادرة أفغانستان؟.
هناك العشرات من أسئلة "لماذا وكيف ومن وما" التي سيحاول الأكاديميون والباحثون دراستها وتمحيصها وإلقاء الضوء عليها بعد الحدث الكبير الذي شهدناه بتقهقر الغرب وفوز أناس حفاة قاتلوه بشراسة لـ 20 عاما دون انقطاع.
لكن لا أظن أن أحدا سيحاول إثارة أسئلة نقدية لمعرفة الأسباب التي تدفع الغرب القوي وجيوشه الجبارة إلى القدوم بأعداد غفيرة إلى أمصار العرب والمسلمين كغزاة وفاتحين.
ولا أظن أن الغرب ومؤسساته التعليمية ومراكز أبحاثه ومعهما أصحاب الشأن في دولة ستجلس يوما لدراسة حدث مزلزل مثل الذي وقع في أفغانستان وتنتقده من خلال إشغال العقل لاستقصاء دروس عملية تجنبهم وتجنب الشرق "الضعيف" في نظرهم ويلات مثل التي وقعت في أفغانستان في العقدين الماضيين.
يستعصي على الذي يمسك بزمام القوة والسلطة شبه المطلقة أن يقبل النزول إلى مستوى الناس "الضعفاء" لأنه إن قبل ذلك معناه أن الطرفين سواسية.
كي لا يستغرب القراء فإننا ما زلنا نقرأ دراسات أكاديمية استشراقية منطلقها أن طريقة الحياة في الغرب يجب أن تكون السائدة وعلى الشرق أن يقبلها وإلا.
وتقسيم العالم إلى كوكبين "كوكب الشمال" أي الغرب بصورة عامة، حيث يقبع المال والسلاح والعلم والمعرفة والحريات الفردية، و"كوكب الجنوب"، حيث الفقر وغياب الحريات الفردية وتفشي الأمية يقع في هذا الإطار.
هذه الثنائية ترى في "الشمال" منارة يجب أن تضيء الدياجير التي تغلف عالم الجنوب، وعلى "الشمال" استخدام أي خيار متاح كي تبدد أنواره ظلمات الجنوب.
والثنائية جعلت الغرب (الشمال) مرددا لأطر خطابية محددة مثل الببغاء. انظر مثلا كيف يحصر الغرب مجمل ما أنجزه في غزوه أفغانستان واحتلاله الذي دام 20 عاما في "الحرية" التي حققها للمرأة هناك.
ليس أفضل من المساواة، خصوصا بين الرجل والمرأة، لكن ماذا عن الانتشال من الفقر المدقع ومنح فرصة شراء أحذية للحفاة من الأطفال وتطوير البنى الصحية والتربوية والتعليمية والصناعية والزراعية والاقتصادية؟.
شخصيا لم ألحظ حتى بين السطور أي إنجاز للغرب في مضمار تطوير الإنتاج والاقتصاد والتربية والتعليم وإحداث تنمية شاملة حتى في المناطق الكثيرة التي كانت آمنة طوال هذه الفترة في أفغانستان.
في الحقيقة، حدث العكس، حيث استفحل الفساد وزادت الطبقية ولم يشهد اقتصاد البلاد نسب نمو ملحوظة في أي قطاع من قطاعاته.
سيستغرق الغرب طويلا كي يدرك أن الشرق العربي والمسلم يعيش في إطار متماسك من الثقافة ويأتي الدين في مقدمتها ومن ثم التقاليد المتوارثة والمتواترة.
الغرب ينطلق من إطار أن الشرق "المظلم" في حاجة إلى "نور" الغرب، وبالشكل الذي شرحناه أعلاه. ما يعتقده الغرب خاطئا هو أهمية "القيم" التي لديه، حيث من وجهة نظرة تسمو كثيرا على "القيم" المتوافرة لدى الشرق.
وينسى "الغرب" أن القيم نسبية، فكما أن وزارة الدفاع البريطانية فخورة بإنقاذ كلابها الـ 200، كذلك الأفغان فخورون بقيمهم وهم ربما الآن يقعون على قفاهم من الضحك على موقف الوزارة هذه.
إنشرها