Author

نظرية أكاديمية تقتحم معاقل السياسة الأمريكية

|
أستاذ جامعي ـ السويد
كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن "النظرية العنصرية النقدية" في الولايات المتحدة. لو كان الحديث مقتصرا على الأروقة الأكاديمية، لكان ذلك أمرا عاديا، الجامعات في الأساس ساحة للنقاش والبحث العلمي والتنظير.
والنظرية النقدية هذه ليست غريبة على الساحة الأكاديمية. جذورها ماركسية، وهنا يجب التمييز بين ماركس كفيلسوف ومفكر، وماركس صاحب منهج إصلاحي استند إليه وإلى طروحاته الشيوعيون بقيادة الاتحاد السوفياتي السابق.
لن نجافي الحقيقة إن قلنا إن ماركس يعد اليوم أكثر مفكر معاصر تأثيرا في الغرب، وجذور النظرية العنصرية النقدية التي نحن بصددها تعود إلى مفاهيم العدالة الاجتماعية التي تبناها، وكيف أن السلطة والطبقات الحاكمة والمستفيدة تستغل الأوضاع لإبقاء وتعزيز مكانتها وامتيازاتها في المجتمع على حساب الطبقات المستضعفة.
لن أغوص في مسار النظرية النقدية الماركسية وكيف تطورت لتعكس الحياة المعاصرة في أدق تفاصيلها. هذا قد يتطلب سلسلة من المقالات.
وفي أي مسعى أكاديمي نقدي، يبرز اسم المفكر الإيطالي اللامع أنطونيو جرامشي الذي استقى من ماركس مفهوم "الهيمنة" وجعل منه إطارا نظريا وفكريا. ونحن الأكاديميين لا زلنا نتكئ على جرامشي وأفكاره في دراساتنا النقدية في شتى صنوفها ومواضيعها.
وباختصار شديد، فإن النظرية العنصرية النقدية تقدم إطارا فكريا ومنهجيا يمنح الأكاديميين الوسائل العلمية الرصينة التي تمكنهم من إماطة اللثام عن الفروق الاجتماعية المبنية على اختلاف الجنس، وكيف أن التميز العنصري متغلغل في القوانين أو حتى الدساتير القائمة رغم نبذ السلطات الظاهر للعنصرية كمنهج وممارسة.
وأظهرت الدراسات التي تأخذ هذه النظرية منهجا أن ميراث وتركة التميز العنصري لا تزال تطل برأسها وبقوة في الولايات المتحدة حتى بعد تثبيت السياسات الخاصة بإلغاء أثرها.
وبرزت النظرية كنهج خاص ضمن الدراسات النقدية في الثمانينيات من القرن الماضي وتبناها اليسار الأمريكي بقوة عندما رأى أن تأثيرها بدأ ينساب خارج الأبراج الجامعية وصار محسوسا في الصحافة والإعلام وكذلك لدى الطبقات الاجتماعية التي ما زالت تعاني إرث التميز العنصري.
وكانت جامعة هارفرد الشهيرة رائدة في تقديم النظرية ومن أحضانها ظهر علماء ومفكرون بارزون من أمثال ديرك بيل وكيمبرلي كرينشو وآخرون ساعدوا في نشرها على نطاق واسع من خلال كتاباتهم.
وكما هو متعارف، فإن المناهج التدريسية على مستوى المدارس والمراحل قبل الجامعية تتبنى النظريات السائدة في الأروقة الجامعية. ولأن النظرية العنصرية النقدية صار لها صدى ودوي في الأبحاث الأكاديمية، أدخلها مسؤولو التربية والتعليم في أغلب الولايات الأمريكية في المناهج الدراسية على المستويات قبل الجامعية.
المناهج الدراسية، خصوصا ضمن نطاق المدارس الإعدادية والثانوية تسهم بصورة مباشرة في التكوين الفكري، ولها تأثير بالغ في السلوك والأخلاق والمعرفة.
وعندما صارت الفروق المبنية على التمايز العنصري مسألة في غاية الأهمية في الولايات المتحدة في الأعوام الأخيرة وأخذت تمس حياة الملايين من الناس وتحولت إلى ظاهرة اجتماعية مثل حركة "حياة السود مهمة"، عزا اليمين المتمثل في الجمهوريين الظاهرة إلى الدور الذي لعبته النظرية العنصرية النقدية في الحياة الأمريكية.
وصارت النظرية على لسان كبار الساسة من الطرفين الديمقراطي والجمهوري "الطرف الأول مؤيد لها والثاني معارض". لكن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب ذهب بعيدا في انتقاده، حيث وجد النظرية من الخطورة بمكان لأن، حسب رأيه، ستؤدي الى نتائج عكسية بمعنى أنها ستمكن أقلية اجتماعية محددة من اضطهاد أغلبية سائدة.
وهكذا خرجت النظرية من الدهاليز الأكاديمية ومن بطون المناهج التدريسية المدرسية إلى العلن وصارت جزءا من الفضاء الاجتماعي والثقافي والسياسي والإعلامي في الولايات المتحدة.
ووصل الأمر إلى اتخاذ سلسلة من الإجراءات التشريعية والقانونية والمالية على مستوى الكونجرس ومجلس الشيوخ الأمريكيين وتدخلت المؤسسات الفيدرالية مع أو ضد النظرية استنادا إلى الميل أو الاستقطاب السياسي.
وصار الجمهوريون ينسبون أغلب سلبيات المجتمع - حسب اعتقادهم - إلى النظرية هذه ووجودها كمادة تدريس في المدارس، وأخذوا يطالبون علنا برفعها من المناهج، لا بل وصل الأمر ببعضهم إلى الدعوة الرسمية لمنعها من التداول على المستوى الفيدرالي وفرض حصار حتى على الإشارة إليها في المؤسسات المهمة مثل الجيش والأمن والاستخبارات وغيرها.
وشن الجمهوريون ومعهم اليمين عموما حملة على الجامعات والأكاديميين الذين يتخذون من النظرية منهجا للدراسات والأبحاث الأكاديمية وفرضوا على مؤسسات الدعم الفيدرالية التي تحت تصرفهم عدم تقديم أي عون مادي للأبحاث والباحثين الذين يجرون دراساتهم استنادا إلى هذه النظرية.
لما كان للنظرية العنصرية النقدية أن تشع خارج البرج الأكاديمي العاجي لولا الجلبة التي أحدثها معارضوها من الجمهوريين. لولاهم لبقيت حبيسة الجدار الأكاديمي والمدرسي، كما هو الحال مع نظريات أخرى أكثر انتشارا وأبلغ وقعا في الدراسات الجامعية.
وها هو تأثير النظرية ينتقل إلى أوروبا وأخذنا نحن في السويد مثلا نشجع الطلبة على اتخاذها منهجا وبدأت مؤسسات دعم الأبحاث الجامعية تخصص مبالغ طائلة للباحثين الراغبين في اعتمادها.
قد تكون النظرية العنصرية النقدية أول نظرية في العلوم الاجتماعية تتخذ من السياسة ساحة للصراع وفي بلد هو اليوم الأقوى والأعظم في العالم، والفضل كل الفضل يعود للجمهوريين في أمريكا، إذ لولاهم لما تحولت النظرية إلى مسألة رأي عام وميدان للسباق والمناقشة والحوار في وسائل الصحافة والإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي.
إنشرها