Author

دردشة فاكسينية

|
أستاذ جامعي ـ السويد
واحدة من الخصائص التي تأسرني عند الكتابة باللغة العربية هي السعة بمعنى أنها لغة تسع ما يراودنا من أفكار وتخيلات وما نلاحظه أو نحسه أو نسمعه أو نشعر به، ولا سيما ما نرغب في استعارته من مفردات من لغات أخرى.
والسعة هذه ما كانت متاحة لولا ما تمتلكه لغة الضاد من إمكانات اشتقاقية أكاد أجزم أنها تنفرد بها عن باقي لغات الدنيا وتمنح الناطقين بها فرصة نادرة لهضم واستيعاب وتوطين المعارف والعلوم والتكنولوجيا خصوصا الحديثة منها.
إن لم يكن للعربية المعاصرة مكانة بارزة في النشر المعرفي في شتى الحقول، فهذا مرده لواقع الحال المتردي للعرب الذين بعد صعود نجمهم كأمة ماسكة بزمام العلم والمعرفة ومنتجة لهما في القرون الوسطى، خفت ضياؤهم في العصر الحديث وتحولوا إلى مجرد مستقبلين لما لدى الآخرين.
أسوق هذه المقدمة البسيطة لإلقاء بعض الضوء على اختياري مفردة "فاكسينية" في العنوان للدلالة على مرادفها بالإنجليزية vaccine وهو الطعم أو اللقاح، حيث يسع لسان الضاد ليس على نقله لفظيا، بل أيضا توطينه إن قبلناه.
وأنقل هنا للقراء الكرام فحوى دردشة "فاكسينية" كنت طرفا فيها وقعت قبل أسبوعين وأنا في طريقي لأخذ أول جرعة من الفاكسين "اللقاح" الذي سيحمي بدني من فيروس كورونا.
تأخرت كثيرا في طلب اللقاح الذي كان متاحا هنا في السويد للذين هم في عمري قبل نحو ثلاثة أشهر. أنا لا أقع في خانة رافضي التلقيح. على العكس أشجع عليه، لكن ما حدث هنا في السويد فور توافر اللقاحات كان بمنزلة فوضى لا تليق بمكانة البلد ورقيه. هذا بحث آخر قد نعرج عليه لاحقا.
عند ذهابي إلى العيادة التي تقوم بالتلقيح، كان أمامي صف طويل من السيارات. في نهاية الصف وقف شخصان تابعان للعيادة. وما إن فتح السائق نافذة سيارته للاستفسار، حتى استدار عائدا أدراجه، ورافضا الدخول بسيارته في قاعة كبيرة لتلقي التلقيح.
وصلت إلى الخط الذي يقف عليه الشخصان من العيادة بلباسهما الطبي بعد نحو ساعتين من الانتظار الممل في سيارتي - الطابور كان طويلا جدا. وما إن فتحت نافذة السيارة، حتى نطق واحد منهما بنبرة حادة بعض الشيء: "لدينا أسترازينيكا فحسب. لقد نفدت الجرعات الأخرى "لفايزر" و"موديرنا".
قلت: "لا بأس. أقبل بأسترازينيكا".
ومن مجموع ربما مئات الراغبين في تلقي اللقاح الذين انتظروا طويلا في الطابور، لم يتقدم لأخذ أسترازينيكا إلا كاتب السطور ومجموعة أخرى من المواطنين السويديين.
في القاعة الكبيرة المخصصة للتلقيح كانت هناك مجموعة من الممرضين والممرضات وصناديق لا بل أكداس من لقاحات أسترازينيكا.
وجرى حديث شيق في القاعة عن اللقاحات المتوافرة وآراء الناس حولها وما نقرأه أو نسمعه عنها، ارتأيت أن أضمه تحت عنوان "دردشة فاكسينية".
والدردشة هذه صارت جزءا من الحديث العام بين الناس حول اللقاحات المتوافرة.
ما يميز "الدردشة الفاكسينية" الحالية أنها ليست غريبة الأطوار فحسب، بل حديثة العهد لا سابق لها، أي: لم نعهدها ونحن نتلقى "الفاكسينات" منذ نعومة أظفارنا.
"صار لي أكثر من 40 عاما أعمل في قسم التلقيح في المستشفى ضد أمراض وفيروسات عديدة، ولم ألحظ أن سأل شخص عن اسم أو علامة التلقيح الذي يتلقاه"، قالت ذلك ممرضة مسنة متقاعدة أعيدت للعمل للنقص الحاد في الكادر الطبي بعد تفشي الجائحة.
لقد صار لاسم ونوع الفاكسين في حملة التطعيم ضد فيروس كورونا نكهة أو ولع قد يصل إلى حد العبادة أو العشق. وهناك اليوم من يتباهى بنوع الفاكسين الذي حصل عليه، ويرى فيه قيمة مضافة يمتلكها بدنه ويفتقرها بدن آخر لم يحظ به.
لقد قسمتنا اللقاحات إلى قبائل وشعوب وصار نوع اللقاح الذي تلقيناه بمنزلة إكليل غار أو وصمة سلبية. كلما أذكر أنني أخذت لقاح أسترازينيكا حتى أمام زملاء أكاديميين، أتلقى نظرة استغراب أراها أحيانا بمنزلة استهجان وازدراء، حيث يتفاخر المقابل بأنه تلقى "فايزر".
لا أعلم إن كان بين قرائي الكرام من تلقى أسترازينيكا كي يكون رفيقا لي، إلا أنني متأكد أن الأغلبية التي حصلت على "فايزر" ترى فيه كثيرا من المميزات ما يجعل اللقاح مع متلقيه في صف أرفع شأنا من حيث الحماية والفاعلية. صحيح أن "فايزر" حتى في بعض الحوليات العلمية له الصدارة، بيد أن محصلته - الحماية من الفيروس - تشبه وتقترب كثيرا من أي لقاح آخر.
وكل لقاح له قصة ربما نعرفها عن ظهر القلب. فقصة "فايزر" تشبه في بعض تفاصيلها ما يرقى إلى الأسطورة. انظر الهالة التي رافقت التوصل إليه في شركة ألمانية يملكها زوج وزوجته يعيشان في وئام ومودة ولهما من المال ما يجعلهما مثالا ونموذجا إنسانيا رائعا.
وبعدها، انظر كيف أن الشركة الألمانية هذه التي يملكها الزوجان، وهي بايونتك، دخلت في شراكة مع عملاق الصناعة الصيدلانية في العالم شركة فايزر الأمريكية.
وانظر كذلك إلى أهمية اللقاح الذي يجب حفظه في درجات حرارة لا تقل عن 70 تحت الصفر، وقصص كثيرة أخرى منحت "عشيرة" فايز، وهي الأغلبية، المكانة التي لا ترتقي إليها اللقاحات الأخرى.
ولكل لقاح قصة، ولكل لقاح دردشته الخاصة به، وأظن أن قرائي لا بد وأنهم في شوق للاطلاع عليها، وهذا ما سنقوم به في المقبل من الأسابيع.
إنشرها