Author

الدين العام والناتج المحلي في علاقة انكماشية

|
عضو اللجنة المالية والاقتصادية ـ مجلس الشورى

في عبارات شيقة جدا كتب آدم سميث يقول، "إن الصناعة والتجارة تزدهر فقط في دولة تتمتع بدرجة عالية من الثقة بعدالة الحكومة، هذه الثقة هي التي تجعل كبار التجار والصناعيين في الأحوال العادية يعهدون بأموالهم للحكومة لاستعمالها". وفي عبارات أخرى يقول، "إن البلد الذي فيه التجار والصناعيون تكثر فيه مجموعة من الأفراد الذين تكون لهم القدرة على تسليف الحكومة"، "وفي دولة هكذا حالها، فإن الحكومات تكون عادة معتمدة على هذه القدرة وتلك الرغبة عند رعاياها لإقراضها، وهي تتوقع مسبقا سهولة الاقتراض، وبالتالي فإنها تريح نفسها من واجب الادخار والتوفير".
هذه العبارات الاقتصادية البارعة كتبها آدم سميث في القرن الـ18، وما زالت صحيحة تماما حتى اليوم، لكن في عبارات أخرى يقول إن "التصاعد المستمر للديون الضخمة المرهقة قد يدمر جميع الدول الكبرى في أوروبا". والآن نحن نقترب من نهاية الربع الأول من القرن الـ21 ولم تزل تلك الدول الكبرى التي كانت تقترض في عهد آدم سميث، وهي تقترض الآن بالتناسب نفسه، ولم تتدمر كما تنبأ، هذا بغض النظر عن الحروب التي مرت بدوافع عرقية أو فلسفية، لكن من المؤكد أن تلك الحروب لم تكن بسبب ارتفاع الديون الحكومية.
لكن الدين الحكومي كما وصفه آدم سميث في تلك الأوقات، يصنف إلى جزأين، الأول هو الدين الحكومي في مقابل خدمات لم تدفع أجورها، أو سلع ومنتجات لم تسدد مبالغها، وهناك السندات التي تصدرها الحكومة وتحمل فائدة. ووصف آدم سميث بدقة الدين الحكومي في بريطانيا وفرنسا في القرنين الـ17 والـ18، وهنا كانت معظم إيرادات الدولة تكمن في الضرائب، كما أنه لم يكن هناك خيارات للاقتراض من أسواق العالم الخارجي، فما زالت القاعدة هي الثقة بالحكومة، ولم يكن هناك مجال لأن يثق تجار فرنسا بالحكومة البريطانية ولا العكس عموما، وكانت هذه الدول تعتمد على ازدهار التجارة والصناعة فيها، وهذا عزز وسرع بلا شك من قيام الثورة الصناعية الأولى. في هذه الحقبة كانت الحكومة تقترض بناء على توقعاتها من ناتج الضرائب، وعندما لم تكن حصيلة الضرائب كافية لسداد القروض، فإنه يتم تمديد الأجل "ما يعرف الآن بإعادة جدولة الدين"، هذا التمديد يعني رهن عام لحصيلة الضرائب للمدد المقبلة التي يغطيها التمديد، بل لقد كانت حصيلة معينة من ضرائب ترهن لسداد دين مخصص.
هكذا هي العلاقة التي رسمها آدم سميث بين الدين العام والضرائب، فالدين العام الذي لا يمكن تسديده خلال العام ويمتد إلى أعوام أخرى، ولأن الحكومة ليس لها دخل إلا الضرائب، فإن ما يتم هو في الحقيقة رهن لجزء من دخل الضرائب من أجل سداد الدين، وإذا كان دخل الحكومة في دول رأسمالية هو فقط ذلك الناتج عن الضرائب والرسوم، فإنها لن تتمكن من تنفيذ سياساتها في التنمية وبناء الاقتصاد إلا من خلال الفائض من الرسوم والضرائب بعد خصم ما سيتم دفعه لخدمة الدين العام وسداده، وإذا كان حجم حصيلة الضرائب يرتكز أساسا على حجم الإنتاج في البلاد، بقدر ما سينتج المزارع ويبيعه للناس، وبقدر ما ينتج المصنع ويبيعه للناس، وبقدر ما يعمل العامل من ساعات، ويحصل على أجر، فبقدر ما ينتج كل هؤلاء ويبيعونه "وهو ما نسميه الناتج المحلي"، بقدر ما يكون حجم حصيلة الضرائب. وهكذا، فإن حجم حصيلة الضرائب سيرتفع ويتحسن بقدر الزيادة والتحسن في هذا الإنتاج المحلي، وإذا كان جزء معين من حصيلة الضرائب مرهون لدفع مستحقات الدين العام، فإن هذه النسبة المحتجزة للدين العام هي التي ستقرر مستقبل الاقتصاد.
إذا كان هناك فائض مناسب جدا من حصيلة الضرائب بعد خصم مستحقات الدين العام، وإذا استخدم هذا الفائض في تحسين البنى التحتية الاقتصادية ما يحسن من إنتاجية العامل وجذب رؤوس الأموال وزيادة المصانع، فإن الوضع الاقتصادي سيكون من حسن إلى أحسن، وأما إذا كان العكس، فإن انهيارا في البنى التحتية سيقود مع الوقت إلى ضعف الناتج المحلي عموما، وبالتالي انخفاض حصيلة الضرائب ما يقود إلى ضعف الاستثمار في البنى التحتية، وهكذا في دائرة انكماشية لا مفر منها، والعالم اليوم يترقب لحالة الاقتصاد الأمريكي مع تراجع حجم الإنفاق على البنى التحتية كنتيجة لحجم الدين الحكومي. ولهذا، فإن التقارير تتوالى دائما من أجل حساب حجم الدين العام في مقابل حجم الناتج المحلي، وحجم النمو هنا مقابل حجم النمو هناك.

إنشرها