Author

أخطار التعليم التقليدي ولغة المستقبل

|
عضو اللجنة المالية والاقتصادية ـ مجلس الشورى

بمناسبة التعديلات التي أقرتها وزارة التعليم أخيرا، يتبادر إلي سؤال دائما عن مسارات العلم والتعليم. وأنا أقر بأنني لست مختصا في التربية، لكني أمضيت عمرا في التدريس الجامعي، وفي عالم البحث العلمي وفلسفة العلم، وإذا كان التعليم هو في جوهره عملية نقل المعرفة من جيل إلى جيل، فإن أصعب الأسئلة التي واجهت البشرية حتى اليوم، هو السؤال عن تلك المعرفة التي يجب علينا نقلها، ومن يقرر ذلك؟ عندما نكون صغارا، فإننا نجهل كل شيء عن العالم من حولنا، ثم نبدأ بالتعرف عليه من خلال الآخرين، فالمعرفة التي عند أقرب الناس لنا هي التي ستحدد مستقبلنا القريب في ذلك الوقت المبكر من أعمارنا. وبالتأكيد، فإن مستوى المعرفة لدى الأم والأب والإخوة، والقضايا التي تشغل بالهم، ستشكل بدايات المعرفة لدينا. وإذا كان هذا معروفا، فهو ليس صحيحا مع طفل اليوم الذي يحمل بين يديه العالم في جهاز الآيباد، وهو أقرب إليه من أمه وأبيه، ويشكل فضاء المعرفة عنده. وإذا كانت حواس الطفل الأولية، مثل البصر والسمع، هي التي تحدد شكل العالم لديه في ذلك الوقت، ومع معرفتنا المؤكدة أن فضاء الإنترنت هو عالم افتراضي غير واقعي، وهذا العالم يختلف تماما عن الواقع الحقيقي الملموس، فإن المشكلة الآن هي في المستقبل وليست في الماضي. وإذا كان المستقبل هو للعالم الافتراضي، فهل ما يتلقاه الطفل من خلال الآيباد من معرفة، حقيقية أم مشوهة؟ وإذا أجبرنا الطفل على التعامل مع الواقع المشاهد فقط، فهل نحن نعده بشكل جيد للمستقبل؟ بمعنى أكثر بساطة، ما المعرفة التي يحتاج إليها الطفل للبقاء في المستقبل وليس معرفة الماضي فقط؟
إن في الإنسان فطرة عجيبة، تشبه تلك التي لدى جميع مخلوقات الله. شيء مجهول يخبر صغار السلاحف مثلا- أنها تعيش في البحار ولم يكن لها مرشد ولا دليل، رغم أنها خرجت من بيض على اليابسة. ومثل أسماك السلمون، التي تعود إلى البحر وهي التي انطلقت إلى الحياة من أعالي الأنهار، فالفطرة لدى الإنسان تخبره عن المستقبل الذي سيعيشه وعليه أن يستعد له، بينما المعرفة المكتسبة لدينا من ماضينا تقودنا إلى القرارات الخاطئة مع الأسف، وهذا يعني أن أطفالنا بفطرتهم يدركون ما عليهم تعلمه، بينما نحن بفعل التشوهات في الفطرة والمعرفة، نصر على أن نمنعهم من ذلك، على أساس أن المعرفة التي يحصلون عليها معرفة غير صحيحة، ونحن نمتلك المعرفة الصحيحة وعليهم الخضوع لها، وهذا هو مصدر القلق عندي، وعليه أطرح هذا المقال ما المعرفة التي يجب علينا أن ننقلها لأبنائنا؟
هناك تجربة شهيرة حول مجموعة من القردة وضعت في حديقة ثم وضع لها الموز في أعلى سلم، وعندما يحاول أحدها الوصول يتم صعقه بالكهرباء، وهكذا تعلمت القردة خطورة أخذ الموز في هذا السلم، ثم تم إدخال قرد جديد للمجموعة، لم يكن يعرف شيئا عن التجربة، وحاول الوصول إلى الموز في أعلى السلم فمنعه الآخرون. وهكذا في كل مرة يتم إدخال قرد جديد وسحب قرد من المجموعة القديمة، وبقيت القرود تمنع أي قرد جديد من الصعود، حتى لم يبق من الجيل الأول أحد، عندها تم إيقاف الصاعق الكهربائي عن السلم، وأصبح الوصول إلى الموز آمنا جدا، لكن القرود ما زالت تمتنع عن الصعود، وعند دخول قرد جديد يحاول الصعود يتم منعه بشدة من أقرانه دون معرفة السبب. ما نفهمه من هذه التجربة واضح جدا، فإذا كانت المعرفة عند الجيل الأول صحيحة بحكم التجربة، فإنها أصبحت مشوهة جدا عند نقلها للأجيال الآتية. لو تركت الأجيال التالية تخوض تجربة المعرفة الجديدة لحصلت على منافع أفضل.
المستقبل للعالم الافتراضي، وهناك اليوم عملات افتراضية وأسواق افتراضية وعالم لا حدود له، والاقتصاد الذي تعلمناه منذ قرون، لم يعد بالضرورة كافيا ليتجنب أبناؤنا الفقر، والحرب التي يموت فيها الشباب لم تعد هي التي تدمر الأمم، ويكفي لشاب صغير في غرفة معتمة أن يتسبب في كارثة لجيش بأكمله. وفي عالم افتراضي بهذا الشكل، فإن إجبار أبنائنا على حفظ وإعادة حفظ، ومنح الشاب بناءه على حفظ معلومات تعلمناها نحن بالأمس، هو عندي أشد خطورة عليهم وعلى مستقبلهم من أي شيء آخر. وعلى هذا نقيس المخاطر التي تواجه أبناءنا، فنحن اليوم بمعرفتنا القديمة أشد خطرا عليهم، ويجب أن ندرك أن كثيرا من المعرفة التي نمتلكها اليوم، تعد خطرا على أبنائنا فيما لو تبنوها كحقائق للحياة في المستقبل، فالعالم الافتراضي في معرفتنا هو عالم مزيف أو يمكن تزييفه، لكنه في الحقيقة عالم له طابع خاص تماما، عالم لا يمكن فهمه ما لم نعرف اللغة التي يفكر بها ذلك العالم، هو عالم فرضت الآلة شكله وصنعت قوانينه، ولهذا فإننا بحاجة إلى تعليم أبنائنا لغة الآلة، وعليهم اكتساب المعرفة في ذلك العالم بأنفسهم، لكن لغة الآلة هي شكل من أشكال المنطق الرياضي، ولهذا فإن المنطق الرياضي وأشكال التفكير من خلاله، السلاح الفاعل الذي يمكننا تزويد الأجيال المقبلة به من أجل الحياة بأمان.
إنشرها