الرأسمالية أم القيم الإنسانية؟

يعاني العالم منذ نحو عامين انتشار جائحة كورونا، وكانت الموجة الأولى من هذا الفيروس القاتل مرهقة جدا للاقتصاد العالمي، وتتطلب هذه المرحلة معالجة الآثار الاقتصادية للجائحة، التي وصلت إلى رقم ضخم بلغ نحو أكثر من 11 تريليون دولار تعهدت دول مجموعة العشرين بقيادة السعودية بتقديمها، سواء كان ذلك من خلال الدعم الداخلي، أو دعم الدول الأكثر تضررا، أو تحفيز الشركات، لضمان استدامة سلاسل الإمداد.

كما عملت السعودية مع دول مجموعة العشرين على منح الأولوية للدول الأكثر فقرا، من خلال مبادرة تاريخية لتعليق مدفوعات الديون بقيمة 14 مليار دولار، وإعفاءات لـ73 دولة مؤهلة. وفي هذا الإطار، أسهمت هذه الجهود الجبارة إسهاما بارزا في تخفيف وطأة الجائحة اقتصاديا على دول العالم الفقيرة، لكن هذه المبادرات لم تكن قادرة على القضاء على الفيروس ومنع انتشاره.

ظهرت الجائحة في موجة جديدة أكثر فتكا في كل من الهند وبعض دول العالم النامية، ووقفت هذه الدول عاجزة أمام انتشار المرض، حيث أودت في منطقة أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي بأكثر من مليون شخص، رغم جهود صندوق النقد الدولي لدعم حملات التلقيح، ووقف تفشي الوباء بأكثر من 50 مليار دولار. لهذا، فإن الإجراءات الاقتصادية لم تكن لتحل محل الإجراءات الطبية في منع انتشار المرض. وكانت المعضلة الأساسية، التي ظهرت مع الموجة الثانية للفيروس، هي عدم كفاءة توزيع اللقاحات، حيث لم يتم تحصين سوى 3 في المائة فقط من سكان العالم حتى الآن، بحسب منظمة الصحة للدول الأمريكية، والسبب الأساس هو احتكار الشركات المنتجة للقاحات، ما يعني فشل كل الجهود التي بذلتها دول العالم ما لم يتم تحقيق تحول حقيقي في موقف هذه الشركات.

لقد استشعر العالم خطورة هذه المسألة وضرورة توافر اللقاحات بشكل سريع ومباشر، وهذا لن يتحقق طالما لم يتم السماح لهذه الدول النامية، وغيرها، بتصنيع اللقاحات وتوزيعها، ما يستدعي رفع براءات الاختراع الخاصة باللقاحات فقط، وهذا المقترح يجد اليوم صدى واسعا، خاصة مع دعوة الولايات المتحدة إلى إعفاء عالمي من براءات الاختراع للقاحات، وطلب مقترحات أعضاء البرلمان الأوروبي، وهناك أكثر من 100 دولة تدعم الطرح، بينها الصين وروسيا، وكذلك شددت منظمة أطباء بلا حدود على عدم إضاعة الوقت.

لقد بدا واضحا الآن أمام الجميع أن الدعم الاقتصادي وحده لن يكون كافيا، ولن يحقق السرعة المطلوبة في مكافحة الوباء والعودة مرة أخرى للحياة الطبيعية، خاصة أن تهديد الوباء لم يزل قائما حتى مع الدول التي نجحت في احتوائه أو في تطعيم نسبة كبيرة من مواطنيها، نظرا إلى الطبيعة المتحولة والمتحورة للفيروس، وقدرته السريعة على إنتاج أنواع جديدة أكثر شراسة وانتشارا، ما اضطر معظم هذه الدول إلى إغلاق حدودها مع الدول التي ظهرت فيها نسخ أكثر تطورا من الفيروس. وهذا يوضح أنه مؤشر على أنه لا أحد قد ضمن تعافيا كاملا من الفيروس وتهديداته، وأن التضامن الدولي لم يزل ضرورة ملحة.

ومع أهمية هذه الخطوة لتحرير اللقاحات من قيود براءة الاختراع، فإن العالم لا يزال متباطئا فيها بشكل مقلق، والسبب جزئيا يعود إلى أن هذه المطالب لا تتعلق بمنظمة الصحة العالمية، بل بمنظمة التجارة العالمية، لأنها هي المعنية بمثل هذه القضايا، وهناك مطالبات من أكثر من 60 دولة حول العالم بمراجعة النصوص المتعلقة ببراءة الاختراع ودعم التخلي عن حماية الملكية الفكرية للقاحات كوفيد - 19، والأمر لا يقف عند اللقاحات نفسها، بل يتعداها إلى العلاجات والتشخيص، والأجهزة الطبية، ومعدات الحماية، وأيضا المواد والمكونات اللازمة لإنتاجها. وللحقيقة، فإن نجاح العالم في تخطي هذه العقبة الصعبة لا يعني الانتصار في معركة فيروس كورونا والحد من انتشاره، بل يعني الانتصار لقيم الأخلاق والإنسانية على الأفكار الرأسمالية والاحتكارات وتعظيم الأرباح.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي