من الواقع الافتراضي إلى المفرط
في مقطع فيديو يعود لعام 2016 يصور رحلة شخص يقضي يومه الاعتيادي بداية بالصعود إلى حافلة، وأثناء انتظاره في المقعد الخلفي تنبثق نافذة افتراضية تحوي لعبة فيديو تظهر في الفراغ الموجود أمام الراكب. يقوم الراكب بالتفاعل مع اللعبة بكلتا يديه وكما لو أنه يقوم بلمس شاشة حاسوب أمامه. وبينما يستمر في اللعب تنسدل أمامه نافذة صغيرة في الفراغ نفسه تشير لورود مكالمة عبر الهاتف، وبعد الموافقة على طلب المكالمة تظهر صورة المتصل أمامه كصورة حية، ويبدأ بالحديث معه في غياب أي أجهزة هاتف أو شاشات لوحية.
كما أن التنبيهات التي عادة تظهر على أجهزتنا النقالة يشاهدها الراكب عن يمينه وشماله مثل استقبال الرسائل أو التحديثات الخاصة ببرامج الجوال. وعند الاقتراب من مركز المدينة تظهر لوحة افتراضية في الحافلة تشير إلى الوقوف في المحطة التالية. عند الوصول للمحطة يترجل الراكب ليسير في جانب الطريق وما يلبث حتى يشاهد لوحات رقمية افتراضية على جانبي الطريق ومن أمامه تظهر تباعا عند سيره.
تتنوع تلك النوافذ الرقمية بين لوحات دعائية أو إرشادية للمحال والمراكز التجارية القريبة. مشهد آخر أكثر إثارة يبدأ عند دخول المتجول مركز تسوق، فتبدأ النوافذ الافتراضية ثنائية الأبعاد وبألوان مثيرة بالظهور متنوعة بين رسائل تسويقية للمنتجات أو مشيرة إلى الأصناف المعروضة وأسعارها. هذه المشاهد السابقة تعطي تصورا مدهشا عن مدى إمكانية تطور الواقع الافتراضي وامتزاجه مع الحقيقي ليشكل ما يسمى الواقع المفرط Hyperreality.
بداية مصطلح الواقع المفرط أول من قام بصياغته هو جان بودريلارد عالم الاجتماع الفرنسي الذي يعرفه بأنه عدم قدرة الوعي على التمييز بين الواقع وبين ما يحاكي الواقع، وذكر مثالا على ذلك منتزهات ديزني لاند الترفيهية وما تحويه من بعض المنازل في تجسيدها لحياة الماضي بشيء من وحي الخيال وكأنها حقيقة. لكن من الناحية التقنية ما الفرق بين الواقع الافتراضي والمفرط؟ يتمحور الفرق الرئيس بين الواقعين هو أن الواقع الافتراضي ينفذ في بيئة افتراضية بالكامل دون تمازج أو تداخل مع الواقع، مثل بعض ألعاب الفيديو التي تقدمها أجهزة "بلايستيشن" على سبيل المثال.
على النقيض من ذلك، فإن الواقع المفرط يتمثل في مزيج وتداخل بين واقع افتراضي وعالم حقيقي تمكنه تقنيات متقدمة مثل الذكاء الاصطناعي وتقنية التصور. في الواقع المفرط فإن العالم الرقمي التقني هو المهيمن والطاغي على الواقع الحقيقي كما تصوره المشاهد الموصوفة في بداية المقال. في اعتقادي أن فلسفة وتقنيات الواقع المفرط ستغير كثيرا من المفاهيم والممارسات الحياتية، سواء في التسوق، أو الترفيه وكذلك في التعليم والعمل. ففي التعليم، قامت مونيك ويبر أستاذة دراسات العالم القديم في جامعة ملبورن في أستراليا، بتقديم إحدى محاضراتها عن مجسمات ومنحوتات أثرية للطلاب بإعداد فيديو ثلاثي الأبعاد والخوض في تفاصيل تلك المجسمات وسبر أغوارها وتبيان خصائصها بالاستفادة من تقنية الواقع الافتراضي والاستعاضة عن الذهاب للمعمل ومعاينة تلك المنحوتات في الواقع.
إننا نشهد تطورا لافتا متسارعا في التقدم التقني والرقمي الذي يجعل من الصعب أحيانا مواكبته أو الإلمام بجميع جوانبه، وأختم بمقولة للعالم الأمريكي كارل ساجان: "نحن نعيش في مجتمع يعتمد بشكل رائع على العلوم والتقنية، حيث لا يكاد أحد يعرف أي شيء عن العلوم والتقنية".