Author

عندما يزداد عدد الأذكياء

|
ماذا يحصل عندما يصبح الجميع أذكياء؟ ربما يكون سؤالا لا منطقيا؟ لو حاولنا طرحه بطريقة أكثر تحديدا: ماذا يحدث للفرص المتاحة لو أصبح الأفراد الموهوبون والمؤهلون والمهرة أكثر انتشارا؟ قبل الإجابة نقول: هل هذا أساسا أمر مستهدف أن يزداد مثل هؤلاء؟ نعم بلا شك، وهي من أولويات الأمم والمجتمعات إذ تضخ لها الميزانيات وتعدل من أجلها الاستراتيجيات على مستوى الأوطان والمجتمعات والمنظمات. زيادة هذه المعطيات النوعية مطلب للتنمية في أي مجتمع، وأساس لإدراك النجاح والتقدم. وكما كان الجهل سابقا مطب البقاء الأول وعائق الحضارة الأكبر، فاليوم هو الحال نفسها إلا أن الجهل لم يعد جهلا بسيطا كالسابق. وإنما أصبحت البرامج الأممية والمحلية تتحدث عن أصحاب المهارات العليا والذكاء المعرفي والإمكانات المتقدمة في مجالات العلوم المختلفة، دمجت فيها تطبيقات وممارسات العلوم الطبيعية والاجتماعية بشكل غير معهود، لنرى اليوم تداخلات جديدة بين الرياضيات والسلوك وبين التقنية والمال وبين الأحياء والأخلاق وغير ذلك من الأمثلة التي لا تحصر.
وعودة على السؤال وإجابته، نعم نعرف أن زيادة هؤلاء الأكثر ذكاء - معرفيا ومهنيا واجتماعيا - مهم ومستهدف، سنسمع بكثير من التطورات السريعة على العملية التعليمة لتلاحق الواقع المتسارع، تحسين المهارة والكفاءة upskilling سيكون سمة للبرنامج اليومي لكل شخص، ستجد العلماء يعملون موظفين في منظمات صغيرة ومتوسطة، وسترى الاقتصاد يتحرك ويندفع بقوة فرق ذكية وصغيرة يمكن أن تخرج من أي قرية أو مجتمع. كل هذا إيجابي للمجتمع والوطن، وهدف نسعد به ونحتفل إن تحقق، وسنراه يتحقق - بإذن الله. لكن ماذا عن تأثيره في الفرص المتاحة للجميع؟.
عندما يزداد الأذكياء حولنا تصبح حياتنا أفضل، ففرص الإنتاجية والإنجاز تكون أقرب للنجاح من أي وضع آخر. لكن في الوقت نفسه، كلما ارتفع معيار تقييم أصحاب العقول والمهارات تأخر آخرون على المعيار نفسه. ولهذا نقول: إن زيادة الأذكياء فائدة للمكان والزمان ومن يعيش به، لكن تضيق بها فرص فئتين من الناس: المتقاعسين الذين لا يحصلون على حقوقهم من التعليم والرعاية بطريقة عادلة أو في وقت مناسب The unprivileged. ولمثل هؤلاء تقل الفرص المتاحة لهم وتصبح المنافسة صعبة عليهم. لو أردت أمثلة بسيطة انظر إلى حظ شاب لماح بالفطرة ومتفوق دراسيا لكنه لا يجيد أساسيات اللغة الإنجليزية، وانظر كذلك إلى فرص المبدع الخلاق الذي لا يملك مكانا مناسبا أو أداة يتمرس عليها، أو بكل بساطة انظر إلى المجتهد تجاريا الذي يمارس تجاربه بالطريقة الصعبة، لا محتضن يحتويه ولا مرشد يوجهه. بل انظر إلى صاحب التخصص الجيد والهمة العالية الذي لم يجد شخصا واحدا في حياته يرشده مهنيا إلى مسار مهني واضح يحسن له فرصه، وربما يكفي أن تخرج من الطائرة وترى العشرات من المستقبلين لك بعبارة "سيارة"؟ فإمكاناته تمنعه حتى من التسجيل لدى شركات التوصيل. والأتعس حظا منهم من تعثر في تعليمه وإعداده وتباعد عن عالم الفرص الحقيقية حتى أصبح لا يراها، وإن سمعها لا يصدقها.
من الجيد أن نرى اليوم تزايد ذلك النموذج الفردي الذي يضيف فيه الشخص إلى تخصصه المهني مهارات حياتية أخرى مختلفة يكوّن بها مسارا إنتاجيا مزدهرا. نرى أطباء يجيدون بناء محافظهم الاستثمارية، ومهندسين يملكون من مشاريعهم أكثر من مصدر للدخل، ومهنيين مثقفين يجيدون لعبة التعلم والعطاء. لكن في الوقت نفسه نرى آخرين بعيدين جدا جدا عن هذا المسار، ربما منهم من تمنى الحصول على مهارة واحدة ولم يجد لها طريقا. لست هنا بصدد تقييم مسببات حالة العجز هذه، أو تضخيم وجودها أو تقليله، وإنما أرى الرسالة للآباء والمربين وكل القادة الذين يملكون موارد ومسؤوليات ترتبط بمثل هؤلاء: كلما زاد عدد الأذكياء المتمكنين قلت فرص غيرهم، وعدد المتمكنين في ازدياد بلا شك. لهذا لا بد من حصر "الغير" الأضعف - على الأقل في الدوائر القريبة منا - ومحاولة حمايتهم بتحسين فرصهم. لن يستهدف تمكينهم أن يكونوا من المتميزين - فالتميز بطبيعته يستحيل أن يكون للجميع - لكن يجب أن يملكون خططا دفاعية تحميهم في قادم الأعوام من فرصهم القليلة نوعا، وربما عددا، وهذا واجب إن عرفناه لزمنا القيام به.
إنشرها