المرأة السعودية في مجلس الإدارة وتجارب الدول

شهدت السنوات الأخيرة بداية تحول في حوكمة تكوين مجلس الإدارة ومدى ارتباطها بأهداف التنمية المستدامة، ونظرًا لأن النساء لا يزلن يُشكلن أقلية في مجالس إدارة الشركات حول العالم، برزت قضية العضوية النسائية في مجالس الإدارة كإحدى الأهداف المنشودة ضمن أهداف التنمية المستدامة، وقد أصبح تنوع تركيبة مجالس الإدارة محور اهتمام متزايد سواءً من قبل صناع القرار والمستثمرين وعامل جذب للاستثمارات في أسواق المال.
ويؤدي التنوع دورًا مهمًا في مناقشات مجلس الإدارة ويعد أمرًا أساسيًا لاتخاذ القرارات وإدارة المخاطر بفعالية، ويحد من خطر الإفراط في التفكير الجماعي، لذا يُعدّ التمثيل المتوازن بين الجنسين ليس مطلب اجتماعي أو سياسي بل ضرورة إستراتيجية تعزز وتسهم في دفع عجلة التنمية الشاملة، كما يُعدّ تنوع مجلس الإدارة من حيث الخلفيات، الجنس ومزيج من الخبرات المهنية عامل رئيسي يُسهم في خلق ثقافة أكثر تحديًا في معالجة القضايا الرئيسية في الشركة، وبالتالي زيادة المساءلة والشفافية التي من المرجح أن تُعزز القيمة على المدى الطويل.
على الرغم من أن مشاركة المرأة في مجالس الإدارة ظلت محدودة طوال الفترات السابقة، إلا أن التغيرات الاجتماعية والتنظيمية أسهمت بشكل مباشر في زيادة نسبة العضوية النسائية في مجالس الإدارة خلال الـ10 سنوات الأخيرة. ومن حيث واقع الممارسات العالمية، فقد سبقت النرويج العالم من حيث التطبيق كأول دولة تصدر قانون إلزامي لعضوية المرأة في مجالس الإدارة مع بداية الألفية بإلزامية تصل إلى (40%) من مقاعد المجلس، ما شكل نقطة تحول عالمية، لتتبعها دول (فرنسا، إيطاليا، وأيسلندا) بتطبيق نفس النسبة.أما دول المانيا، سويسرا وأستراليا فقد أصدرت قانون ملزمًا بأن لا تقل النسبة عن )30%) على الأقل من العضوية النسائية في مجالس الشركات المدرجة، وفي البرتغال فقد حددت النسبة بـ )33%)، وفي الولايات المتحدة الأمريكية، تفاوتت الولايات في عملية الإلزام، ففي ولاية واشنطن فقد صدر قانون يلزم الشركات المدرجة بأن لا تقل النسبة عن) 25%( من المجلس وذلك ابتداءً من 2022، أما في كاليفورنيا، فقد أصدرت قانونًا يلزم الشركات المدرجة التي يقل مجلس ادارتها عن 5 أعضاء أن لا تقل العضوية النسائية عن عضوتين و3 عضوات في حال كان عدد المجلس أعلى من ذلك، وفي الولايات الأخرى فقد شجعت على ذلك دون تحديد نسبة أو إصدار قانون حتى تاريخة.
ومن حيث واقع الممارسات العالمية، فإن معظم الدول قد أصدرت قوانين ملزمة لتمكين العضوية النسائية في مجالس الإدارة مع تباين في عملية التوقيت والحد الأدنى فيما بين الدول ووضع مستهدفات تدريجية للوصول إليها قبل نهاية 2030 بما يتوافق مع أهداف التنمية المستدامة. وبالرجوع إلى التطور التاريخي فقد كانت البداية مع الأهداف الإنمائية للألفية، وحدث التطور الأكبر في 2015 مع إطلاق أهداف التنمية المستدامة والتي تطلبت في أهدافها الإفصاح والالتزام بجوانب الاستدامة
أما من حيث البداية لتمثيل المرأة في مجالس الإدارة في السعودية، فقد كانت في 2004، بدخول السيدة لبنى العليان لمجلس إدارة البنك السعودي الهولندي في ذلك الوقت كأول امرأة سعودية، رغم من عدم وجود قوانين ملزمة. ومُنذ ذلك الوقت حتى الآن، ظلت مساهمة المرأة محدودة بشكل كبير رغم من ازدياد عدد الشركات والتنوع الذي شهدته السوق المالية ونتوقع أن تشهد المشاركة مستقبلا والزيادة في ظل السياسة القوية في تمكين المراة في كافة القطاعات الحكومية والقطاع الخاصة، فقد بلغ عدد العضوات أقل من (55 سيدة( مقارنة بما يزيد على (2447) مقعدا في مجلس الإدارة لكافة الشركات المدرجة، لتصبح النسبة أقل من)3%)، وبالنظر إلي عدد المستثمرات في السوق نجد أن النسبة تشكل ما يصل إلي (25%) من إجمالي عدد المستثمرين وفق البيانات المنشورة حتى مطلع هذا العام على موقع السوق المالية. وإضافة إلي المبادرات الأخرى، من رؤية السعودية 2030 وبرامجها، التي تضمنت الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية بمنظور شامل وشهدت زيادة ملحوظة في مشاركة المرأة في سوق العمل لسد الفجوة ووضع الممكنات والمبادرات الداعمة لذلك والتي وصلت إلى نسبة تمكين تصل 36)%) لتقترب من المستهدف بعد رفعة والمحدد بنسبة 40% بحلول 2030. إلا أن نسبة المشاركة النسائية في مجالس الإدارة ظلت محدودة.
وأخيراً، تؤدي الأنظمة والقوانين دورًا حاسمًا في التمكين والتفعيل، وباتت عضوية المرأة في مجالس الإدارة مؤشرًا على تطور الحوكمة وجودة القيادة في الشركات، وجزءًا من معايير الحوكمة البيئية والاجتماعية التي تؤثرعلى سمعة الشركة، تصنيفها وجاذبيتها. وسيظل التساؤل في ظل الممارسات العالمية حول آلية تمكين العضوية النسائية في مجلس الإدارة ومدى الحاجة لأدوات تنظيمية تشجع أو تلزم الشركات بالتنوع في مجالس الإدارة والإفصاح عن سياساتها؟ والجواب: سيتطلب المزيد من البحث والنظر في الممكنات التي تعزز من ذلك بشكل شامل، والنظر في تجارب الدول في إنشاء قوانين ومؤشرات للقياس لعدة أسباب من أهمها ارتباطها بالأنظمة الداخلية وثقافتها والأهداف الإستراتيجية وتهيئة البيئة المناسبة والدروس المستفادة من الدول الأخرى في الجوانب الاقتصادية، التنموية والاجتماعية، بهدف بناء التنوع في مجالس الإدارات ويدعم عملية اتخاذ القرار ويعزز من التوازن ما بين الجنسين. وقد يكون الانتقاد المباشر لذلك اعتبارها تدخلًا في حرية الأسواق وإدارة الشركات أو أن تؤدي إلى تعيينات شكلية دون تحقيق الأهداف المرجوة، إلا أن واقع الممارسات العالمية يخالف ذلك، فعلى سبيل المثال: في البيئة التنظيمة لواقع الشركات المدرجة في السعودية، لا يوجد ما يمنع أو يحد من ذلك، ولكن قد يتطلب الأمر المزيد من التشجيع والتمكين في الأدوات التنظيمية الفعّالة، ومبادئ الحوكمة لتعزيز التنوع والإفصاح في التقارير، وكذلك ينطبق الحال على اللجان المنبثقة من المجلس والتي ستعزز من ذلك. لذا يُفضل مراعاة مبدأ التدرج في وضع الضوابط والمحفزات، مع اعتبار الخبرات، الجدارة والمهارات ضمن المعايير المطلوبة لتمكين وجود المرأة في مجالس إدارات الشركات المدرجة في سوق المال والعمل على نشر الجانب التوعوي والتدريبي بما يتوافق مع أغلب الممارسات العالمية ويعزز من بناء اقتصاد شامل مستدام.

باحث متخصص في الاستدامة والحوكمة، الأسواق المالية، المال والاقتصاد

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي