تقارير و تحليلات

أعمال مؤسسية للأوقاف والتصرف في الثروات

أعمال مؤسسية للأوقاف والتصرف في الثروات

أعمال مؤسسية للأوقاف والتصرف في الثروات

أعمال مؤسسية للأوقاف والتصرف في الثروات

 


في التقرير السابق تحدثنا عما يعرف بصناديق الاستئمان، التي ذكرنا أنها تستخدم كثيرا في الخارج، وهي عبارة عن كيانات قانونية تسجل بغير اسم أصحابها وتنقل ملكية الأصول إليها، ومن ثم يحدد شخص طبيعي أو اعتباري كمشرف أو ناظر يتولى عملية إدارة استثمارات هذه الصناديق، وتوزيع المستحقات الدورية على المستفيدين.
صندوق الاستئمان يعد واحدا من عدة خيارات مؤسسية تستخدم للتحكم في التركة بعد الوفاة، وهناك طرق وأساليب أخرى نتطرق إليها في تقرير هذا الأسبوع.

هل توجد صناديق استئمان تدار بطرق مؤسسية في المملكة؟

لا يوجد في المملكة قانون خاص بصناديق الاستئمان، ولا توجد في البنوك خدمة بهذا الشكل، لكن الطريقة موجودة ومطبقة بشكل أو بآخر من قبل بعض المطلعين خصوصا من رجال الأعمال. ولا يوجد هناك لبس شرعي في الآلية المطبقة في المملكة كونها نوعا من الأوقاف المعروفة منذ القدم، لكنها ليست أوقافا عامة، بل أوقافا خاصة.
هناك عدة أطراف معنية بصندوق الاستئمان، أولها صاحب الصندوق الذي يحدد طبيعة الصندوق، فينشئ مثلا صندوقا خاصا بالممتلكات العقارية، بحيث يتولى الصندوق عملية الصرف على الصيانة وتكاليف الإدارة ودفع أي ضرائب أو رسوم على الأصول العقارية، بحيث تستمر هذه الأصول في العمل بشكل طبيعي ويستفاد من عوائدها الدورية، وهذا تطبيق للمفهوم الشرعي للوقف الذي تختصره عبارة "حبس الأصل وتسبيل المنفعة"، أي الحفاظ على الأصل والاستفادة من عوائده في أعمال الخير.
هناك صناديق تنشأ لأغراض محددة بأصل واحد أو بعدة أنواع من الأصول المختلطة، فمثلا هناك صندوق استئمان معني بالأوراق المالية، بحيث يقوم من يملك محفظة أسهم معينة بنقلها إلى صندوق استئمان بإشراف شخص آخر كناظر، أو بإشرافه هو طيلة حياته، وبعد العجز أو الوفاة يتسلم الناظر عملية الإشراف على الصندوق، كذلك يمكن تحديد صناديق استئمان خاصة بالرسوم الدراسية للأبناء والبنات، أو صندوق خاص بالمصروفات المعيشية وتسديد الفواتير، أو آخر خاص بأعمال خيرية محددة، وهكذا.

تحديد الناظر على الصندوق

بعد تحديد طبيعة الصندوق وما يحتويه من أصول تأتي جزئية اختيار الناظر، وهنا يمكن القيام بذلك بشكل تقليدي أو مؤسسي، حسب طبيعة الصندوق. عندما نتحدث عن دور الهيئة العامة للأوقاف أدناه، سنرى أن الهيئة لها دور في عملية الإشراف على الأوقاف، ويمكن توسعة عملها ليشمل صناديق الاستئمان هذه.
إمكانية الاستعانة بناظر مؤسسي تعتمد على طبيعة الصندوق ورغبة مالك الصندوق، فمثلا في حال كان الصندوق مخصصا للمصروفات المعيشية لأسرة المتوفى وعائلته ربما تكون الطريقة التقليدية هي الخيار المناسب، حيث يكون الناظر أحد أفراد العائلة الموثوقين. أما في حالة صندوق استئمان أوراق مالية، فربما الأفضل أن تتولى ذلك مؤسسة مالية معتمدة، ومثله كذلك صندوق الاستئمان الخيري، الذي من الممكن الإشراف عليه من قبل جهة خيرية رسمية.

نماذج ناجحة لصناديق الاستئمان في المملكة

يوجد لدى بعض رجال الأعمال الأحياء والأموات صناديق تعمل بشكل شبيه بصناديق الاستئمان العالمية، لكنها تدار بشكل مستقل كشركات خاصة، وتتبع أنظمة خاصة بها، دون دعم أو مساندة من أي جهة أخرى، والسبب في تمكنها من القيام بذلك يعود إلى كونها مؤسسات كبيرة لديها الإمكانات المالية للتصرف بالشكل الذي يتناسب مع أهدافها ورغباتها. لذا فإن فكرة الصناديق الاستئمانية الخاصة هي أن يتمكن الفرد العادي من إنشاء كيانات صغيرة وإدارتها، بحيث تعمل مثل تلك المؤسسات الكبيرة التي تقوم بإدارة ثروات كبار رجال الأعمال.
من أشهر المؤسسات التي تعمل لمصلحة إدارة ثروات رجال الأعمال هناك المؤسسات الخاصة بأسرة الراجحي المعروفة في المملكة، التي تبنت فكرة الوقف عن والدهم عبدالعزيز بن صالح الراجحي، الذي أوصى بربع تركته كوقف، وأقام أحد أبنائه ناظرا على الوصية، إلى أن قام كل واحد من أبنائه لاحقا بإقامة أوقاف خاصة به. أحد تلك الأمثلة البارزة ما قام به ابنه المتوفى محمد، الذي أسس أوقافا باسمه واتخذ قرارا بأن تنفق ما نسبته 75 في المائة من عوائد أصول الأوقاف في الأعمال الخيرية، والـ25 في المائة المتبقية تستخدم في تنمية تلك الأصول والمحافظة عليها. كذلك لدى أوقاف الشيخ محمد صندوق خاص بالأوراق المالية، شبيه بفكرة صندوق الاستئمان في الأوراق المالية الذي تطرقنا إليه، حيث قرر وقف جزء مما يملكه من أسهم في مصرف الراجحي وأسهم شركات أخرى، بحيث تعود أرباحها إلى الوقف.
أما الشيخ سليمان الراجحي، أطال الله عمره، الذي يعد من أغنى رجال الأعمال في العالم، فقد قام بإنشاء مؤسسة خيرية باسمه، تقدم دعمها لمئات المشاريع الخيرية في أكثر من 130 مدينة وقرية عبر فروعها التي تغطي مناطق المملكة كافة. وقبل أعوام قليلة قرر الشيخ وقف جزء كبير من ثروته باتباع أساليب وقف حديثة ومبتكرة تشمل شؤون العائلة وطريقة إدارة الوقف، إلى درجة أن قام بحصر جميع أملاكه وتقييمها وفق أعراف السوق ومن ثم تخصيص الثلثين كأوقاف، ووزع الباقي على أفراد عائلته حسب الحصص الشرعية.
كذلك لدى الأخوين المتوفين عبدالله وصالح مؤسسات خيرية كبيرة باسميهما تسهم بشكل فعال في الأعمال الخيرية والإنسانية، وتدير أصولا متنوعة من عقارات وأسهم شركات وغيرها، وهذه المؤسسات يمكن اعتبارها أمثلة لما يعرف بصندوق الاستئمان، غير أنها صناديق كبيرة، وتدار بطرق يصعب على الفرد العادي القيام بها.

دور الهيئة العامة للأوقاف في رعاية الأوقاف العامة والخاصة

التاريخ الإسلامي مليء بالأمثلة الناجحة لفكرة الوقف، وفي العصر الحديث هناك وقف الملك عبدالعزيز في مكة، الذي أنشئ بهدف خدمة الحجيج والمعتمرين، إلى أن تطور وأصبح على ما هو عليه اليوم كمركز حضاري تجاري ضخم بقرب الكعبة المشرفة.
ورغم الدور العظيم للوقف في التاريخ الإسلامي إلا أن دوره أخذ في التراجع في العصر الحديث، فكان لا بد من إعادة الحيوية إليه وتعظيم دوره في دعم التنمية وتحقيق النهضة والتقدم للمجتمع وممارسة العمل الخيري بشكل عام. لذا فقد تطور الاهتمام بالوقف إلى أن أصبح لدينا الآن هيئة عامة للأوقاف مناط بها إدارة الأوقاف في المملكة، هدفها تعزيز دور الأوقاف في التنمية والتكافل الاجتماعي وتنظيم الأوقاف والمحافظة عليها وتطويرها وتنميتها. أنشئت هذه الهيئة قبل نحو عشرة أعوام وهي تؤكد في سياستها على تحقيق شروط الواقف، بمعنى أن قرار التصرف في ممتلكات الشخص يعود إليه بحسب ما يحدده من شروط للصرف والأوجه التي يتم الصرف عليها.
الفائدة من الهيئة العامة للأوقاف تأتي في كونها تراقب أعمال القائمين على إدارة الوقف، وهم النظار الذين تم اختيارهم من قبل أصحاب الوقف أو أولئك الذين قامت الهيئة بتعيينهم، بحيث يتم التأكد من تحقق شروط الواقفين وأن يتم التصرف في الموارد المالية بشكل نظامي سليم. وبالعودة إلى مفهوم صناديق الاستئمان الخاصة، من الممكن للهيئة أن تلعب دورا مهما في آلية تنظيم عمل هذه الصناديق، بدءا بصورتها النظامية وآلية فتح الحسابات البنكية المخصصة لها إلى جانب تقديم خدمات النظارة بشكل مباشر أو على الأقل بمراقبة نشاط النظار القائمين على هذه الصناديق.
معظم نشاط الهيئة الآن ينصب في مجال الأوقاف العامة، وليس الأوقاف الخاصة، والفرق هنا أن الأوقاف العامة تعنى عادة بأعمال البر بشكل عام أو بتلك الأنشطة التي تلامس حاجات الناس عامة. أما الأوقاف الخاصة فهي أوقاف مخصصة لذرية شخص أو أقاربه أو عائلته. ولا تزال الهيئة تقوم بحصر الأوقاف في المملكة، وهي كثيرة جدا، تقدر قيمها بأكثر من 1.5 تريليون ريال، بحسب تقديرات الغرفة التجارية في الرياض، وبحسب دراسة مبدئية للهيئة هناك نحو 30 ألف وقف، تشكل الأراضي الزراعية منها نحو 23 ألف أرض زراعية، إلى جانب أراض سكنية ومحال تجارية وشقق سكنية وغيرها.
أما من يرغب في تخصيص جزء من ثروته للأوقاف، فلدى الهيئة مبادرة قيمة معنية بإيجاد آلية مؤسسية للمساعدة على ذلك، من خلال منصة إلكترونية للتمويل الجماعي باسم "وقفي"، فكرتها إيجاد وسيلة إلكترونية مريحة يستخدمها من يرغب من الأفراد والمؤسسات والجهات المانحة والجمعيات الأهلية في المساهمة في أوقاف معينة، بحيث يتم جمع المبالغ الصغيرة والكبيرة وتوظيفها في مشاريع وقفية تحت إشراف الهيئة.
وبحسب نظام الهيئة والدور المؤسسي المناط بها، يمكن للهيئة ممارسة اختصاصها الإشرافي على الأوقاف وأعمال النظارة، بحيث يمكن لها أن تمارس الرقابة والتفتيش المكتبي والميداني على الأوقاف بجميع أشكالها، سواء كانت تلك الأوقاف تحت إشراف الهيئة أو غير ذلك.

صناديق استثمارية وقفية

إلى جانب منصة "وقفي" قامت الهيئة العامة للأوقاف بالتعاون مع هيئة السوق المالية بإطلاق مشروع الصناديق الاستثمارية الوقفية، وهي صناديق استثمارية تعمل تماما كالصناديق الاستثمارية التقليدية وتخضع لجميع شروطها وضوابطها في العمل، لكن تختلف في أهدافها، حيث إن هذه الصناديق مخصصة للأوقاف فقط. ويمكن للشخص الراغب في المشاركة في أعمال الوقف الاشتراك في أحد الصناديق المتاحة، التي تقوم بتنمية أصولها لمصلحة الجهة المستفيدة من الوقف، مقابل رسوم إدارية تستقطع من أصول الصندوق.

نماذج ناجحة للوقف الجامعي

من أبرز النماذج للاستفادة من فكرة الوقف وتوظيفه في مجالات غير تقليدية، هناك الأوقاف الجامعية، ومن أكبرها على المستوى المحلي هناك أوقاف جامعة الملك سعود في الرياض، التي تهدف إلى تعزيز الموارد المالية الذاتية للجامعة، ودعم أنشطة البحث والتطوير والتعليم، وذلك من أجل تحفيز الإبداع والتميز على كافة الأصعدة. ونتج عن هذه الأوقاف عدة مشاريع كبرى تشمل أبراج الجامعة الرئيسة وبرج لفندق خمسة نجوم وآخر للأجنحة الفندقية وأبراج كثيرة تحمل أسماء المانحين وتقع على مساحة 180 ألف متر مربع.
وهناك جامعات أخرى لديها أوقاف علمية كبيرة، مثل جامعة البترول والمعادن وجامعة الملك عبد العزيز، إلى جانب حوالي 25 جامعة أخرى لديها درجات مختلفة من النشاطات الوقفية، وغالباً تتم إدارة هذه الاستثمارات بطرق متحفظة، كالاستثمارات العقارية، ولا تتعامل هذه الأوقاف بالاستثمارات الحديثة مرتفعة المخاطر.
أما في الولايات المتحدة الأمريكية فهناك عدد كبير من النماذج المشهورة للوقف الجامعي، أشهرها على الإطلاق برنامج أوقاف جامعة هارفرد الذي تصل قيمة أصوله إلى حوالي 41 مليار دولار، أنظر الجدول المرفق.
تتميز أوقاف جامعة هارفرد بتعدد وتنوع أصولها وارتفاع مخاطرها المالية، كون الجهة القائمة على الوقف لا تقبل بعوائد متحفظة لما لديها من موارد مالية. فعلى سبيل المثال، نجد أن أكثر من 36 في المائة من استثمارات هارفرد تم ضخها في صناديق تحوط، وهي بخلاف اسمها تعتبر صناديق عالية المخاطرة لأنها تستثمر في وسائل مالية معقدة ومتقلبة، غالباً تكون أوراق مالية، والتي إن جمعناها مع الاستثمارات الأخرى في الأسهم المدرجة والخاصة نجد أنها تقارب 80 في المائة من حجم الاستثمارات، التي أعطت عام 2020 عائداً عالياً نسبياً بمقدار 7.3 في المائة.
 
خاتمة
التخطيط للتصرف بثروة الإنسان يبدأ في الحياة قبل الممات، ومن الطرق الناجحة في ذلك هناك آلية صناديق الاستئمان التي تنشأ وتدار أثناء حياة الشخص، ومن ثم تنتقل إدارتها إلى الناظر المكلف بذلك بعد وفاة الشخص.  وبرأيي إن هناك حاجة لعمل نظام متكامل لصناديق الاستئمان بحيث تخضع العملية لحوكمة مؤسسية ونظام موحد، وذلك بالتعاون بين الهيئة العامة للأوقاف والبنك المركزي السعودي وهيئة السوق المالية، وذلك من أجل تأطير العملية بنظام مؤسسي وباستخدام طرق وأساليب مالية مناسبة.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من تقارير و تحليلات