هوس التجوال في زمن الجائحة
لم يستغل السويديون مادة في دستورهم تسمح لهم بالتجوال والبقاء والمبيت في أي مكان تقريبا في بلدهم الشاسع مثلما هو الحال الآن.
إنه موسم الهروب إلى الطبيعة أو ما يطلق عليه البعض هوس التجوال.
والتجوال لا يعني تمضية ساعة أو بعض الساعة مشيا على الأقدام في الحديقة العامة القريبة من المنزل.
التجوال يعني اللجوء إلى الطبيعة وتمضية أيام أو أسابيع وربما أشهر في رحابها.
نحو 97 في المائة من مساحة السويد البالغة 450 ألف كيلومتر مربع خالية من السكان، وعدا مساحات صغيرة جدا، فإن الأرض وما فيها وما عليها تعد ملكا للدولة.
في هذه المساحة الكبيرة يحق لأي مواطن سويدي أو مقيم فيها التجوال بحرية أو نصب خيمة مع كل ما تتطلبه من ملحقات للسكن فيها لفترة طويلة دون أي مساءلة.
وبما أن التواصل الرقمي "الإنترنت" متوافر أينما كنت في هذا البلد، صار كثير من الناس يمضي أوقاتا طويلة في الطبيعة ما دام باستطاعته التزود بما يحتاج إليه لإدامة الحياة من خلال دراجته الهوائية أو سيارته التي يركنها بجانب خيمته أو مكان قريب منها.
وكان تفشي الجائحة عاملا مساعدا وحافزا لكثير من الناس للجوء إلى الطبيعة. في بلد له مكانته في الثورة الرقمية، الوجود في مكان العمل لم يعد أمرا ملزما لكثير من المهن والأشغال.
وزاد حب الناس للتجوال بعد تقييد السفر بسبب الجائحة، ومن ثم عزوف السويديين بصورة عامة عن السفر بالطائرة لنمو حركة بيئية قوية ترى في الترحال جوا أمرا مشينا.
وأنت تجول في المساحات الشاسعة والغابات الكثيفة "تغطي الغابات ثلثي مساحة السويد"، تندهش لتناثر المنازل والبيوت السياحية (يطلقون عليها هنا "أكواخ الصيف").
من النادر ألا يملك سويدي منزلا "كوخا" في الطبيعة. كانت الناس في السابق تلجأ إلى هذه المنازل في الصيف، بيد أن الإحصاءات تشير إلى أن كثيرا منها كان مسكونا حتى في الشتاء في هذا العام.
وتشجع وتساعد الدولة الناس على السكن والتجوال في الطبيعة، حيث يبلغ حجم المحميات والحدائق العامة أكثر من مساحة دولة مثل الدنمارك، وطول المسالك المبلطة لسير الدراجات الهوائية بعشرات الآلاف من الكيلومترات.
ويحاول السويديون الاستفادة القصوى من فقرة في دستورهم تمنحهم حق التجوال والإقامة في أي بقعة يختارونها من أرضهم الشاسعة دون مساءلة شريطة ألا تكون جزءا من الممتلكات الخاصة، والأخيرة حجمها صغير جدا، حيث يحتاج المرء إلى إذن من صاحب العقار الذي في الأغلب لا يرد ويمنح عن طيب خاطر.
وقد تكون الفقرة في الدستور التي تجعل من كل سويدي أو مقيم فيها وكأنه المالك الشرعي للطبيعة من أحب المواد الدستورية إلى قلوبهم.
والمصطلح الذي يستخدمونه للإشارة لهذه الفقرة Allemansrätten ربما هو من أكثر المصطلحات شيوعا. وأقرب ترجمة عربية إليه قد تكون "حق الوصول العام" بمعنى أن أي شخص له حق الوصول والوجود في أي بقعة في السويد ولأي فترة زمنية شريطة ألا تكون جزءا من الممتلكات الشخصية.
ولأهمية هذه المادة الدستورية، فإنه يتم تدريسها في المدارس وممارستها على أرض الواقع من خلال الرحلات المدرسية. والمادة أيضا ترد بشكل تفصيلي في مناهج تعليم اللغة السويدية الخاصة بالأجانب واللاجئين.
وتنظم شركات خاصة مدعومة من الدولة رحلات إلى الغابات القصية والجبال والبحيرات والسهول والغابات الكثيفة غايتها التأقلم مع الطبيعة والمناخ والحيوانات كي تصبح جزءا مكونا للحياة الشخصية، وليس مكانا أو أشياء يخشى الناس الوصول إليها.
و"حق الوصول العام" له شروطه من حيث التعامل مع الطبيعة والأشجار والحيوانات والأرض والبحيرات وطريقة معالجة الفضلات والقمامة وغيرها.
وبمرور الزمن، صار لمفهوم "حق الوصول العام" قوانينه وتعليماته، لذا يجري تدريسه ضمن المناهج المدرسية وله كتبه وأبحاثه.
والحقوق الكثيرة التي يمنحها الدستور في هذا المضمار ترافقها واجبات ومسؤوليات كثيرة منها احترام وجود الآخرين في المكان نفسه أو بالقرب منه.
والحقوق هذه تسمح للناس بقطف الثمار البرية وجمع الحطب والصيد بشروط في أي بقعة تقريبا. وكذلك تمنحهم الفرصة للسباحة في البحيرات الكثيرة بحرية، أو الوقوف على سواحلها ورمي الحصى في المياه، نشاط يحبذه كثيرون.
وتروج مؤسسات وشركات السياحة هنا لـ Allemansrätten وكأنه معلم أو نصب تاريخي وحضاري وثقافي للتباهي كما تتباهى الأمم الأخرى بآثارها ومعالمها المادية وتروج لها لجذب السياح.
هناك لازمة يكررها الآباء والأمهات لغرسها في ذهن الأطفال ويبدو أن أغلب الناس هنا تعرفها وتمارسها وهي: "لا تخرب، لا تزعج".
حتى الآن، هناك شبه التزام مطلق بهذه اللازمة، حيث الكل يحاول البناء والحفاظ على المنجزات دون تشويش أو ضوضاء.