Author

تجارب العملات الرقمية من قبل البنوك المركزية

|
مختص بالأسواق المالية والاقتصاد

بدأت البنوك المركزية حول العالم بالالتفات جديا لمسألة العملات الرقمية منذ أن أعلنت شركة فيسبوك عملة ليبرا الرقمية قبل عامين، وما تلا ذلك من تطورات كبيرة في العملات المشفرة، وما نالته من شعبية عالية، مثل "بيتكوين" و"إيثيريوم". البنك المركزي السعودي، كان من أوائل البنوك المركزية التي أطلقت مشاريع تجريبية للاستطلاع والتعرف من قرب على طبيعة العملات الرقمية وكيفية عمل سلاسل الكتل والسجلات الموزعة، وذلك من خلال مشروع "عابر"، الذي انطلق في أوائل 2019 بالاشتراك مع بنك الإمارات المركزي.
لماذا تهتم البنوك المركزية بالعملات الرقمية؟ وما طبيعة مشروع "عابر"؟ وإلى ماذا تم التوصل من خلاله؟ وهل سنرى عملات رقمية رسمية مشفرة قريبا؟
مشروع "ليبرا" بدأ بزخم كبير، من خلال تكتل عدد من المؤسسات المالية الكبرى، مثل "باي بال" و"ماستركارد" و"فيزا" ومنصة "إي باي" وغيرها، وكانت الفكرة أن تكون "ليبرا" وسيلة دفع إلكترونية، إضافة إلى إصدارها عملة خاصة بها، غير أن المشروع واجه تحديات تنظيمية وصعوبات تنسيقية أدت إلى تفكك الائتلاف بنهاية عام 2020، وتم تغيير المسمى إلى "ديام"، وتعني "اليوم" باللغة اللاتينية.
هذه الخطوة الجريئة من "فيسبوك" والشركات المتكتلة معها بلا شك دقت ناقوس الخطر لدى البنوك المركزية بشكل أكبر من التخوف من العملات المشفرة الشعبية، والسبب إن فكرة "ليبرا" تشابه عمل البنوك المركزية أكثر من آلية عمل "بيتكوين" وغيرها. فعملة "ليبرا" تستخدم سلسلة كتل مغلقة خاصة بها، ليست مثل سلسلة الكتل المستخدمة في العملات المشفرة المفتوحة والمتاحة للجميع، وبالتالي فعملة "ليبرا" تعد مركزية، مثل البنوك المركزية، إضافة إلى كونها مدعومة بأصول حقيقية وليست مثل العملات المشفرة.
ونتيجة هذه التطورات، قام البنك المركزي السعودي ونظيره الإماراتي، بإطلاق مشروع "عابر" بالتعاون مع شركة الحاسبات العملاقة "آي بي إم"، بهدف التعرف إلى هذه التقنيات الجديدة ودراسة جدواها، من خلال إنشاء سلسلة كتل خاصة وإصدار عملة رقمية مشتركة، والقيام بذلك بالمشاركة مع بعض البنوك التجارية في كلا البلدين، من أجل نقل المعرفة وإجراء التجارب المشتركة.
ركز المشروع على جزئية آليات الدفع والتسوية المالية الفورية بين البلدين، وكذلك داخل كل دولة على حدة، وذلك من خلال عملة رقمية جديدة تنشأ لهذا الغرض، ويستفاد منها في نقل التقنية والتعرف إليها من قرب. ولم يستهدف المشروع فكرة إنشاء عملة رقمية موجهة لعامة الناس، كما هو الحال في العملات الرقمية الشعبية. ورغم ذلك خرج المشروع بنتائج مهمة تشير إلى جدوى استخدام تقنية سلسلة الكتل في مجال التسوية الفورية داخل البلاد وعبر الحدود، وهي جزئية مهمة كونها تعالج بعض جوانب الضعف الموجودة حاليا في الأنظمة المركزية القائمة والمبنية على أساليب تقليدية. على سبيل المثال، تتمتع سلسلة الكتل بعدم المركزية، حتى إن كانت تعمل تحت جهة مركزية، ما يعني أن تعطل أي من العناصر الفنية للمنظومة لا يؤثر في آليات الدفع ولا عمليات التسوية.
هناك بنوك مركزية لديها اهتمام كبير بالعملات الرقمية، وهي البنوك المركزية في كندا وأوروبا وسنغافورة واليابان، وهذه البنوك لديها توجهات لإطلاق عملات ليس فقط لاستخدام البنوك ذاتها، بل كبديل للعملات الورقية الحالية، وكمنافس للعملات الرقمية المستجدة. الفكرة هي أن من الأفضل تقديم عملة رقمية مدعومة بأصول مالية حقيقية من أجل بعث الثقة بها، وفي الوقت نفسه جعل البنوك المركزية تتعامل بها كما تتعامل بالعملات التقليدية، مع المحافظة على جميع الآليات المتاحة لدى البنوك المركزية فيما يخص السياسة النقدية عموما.
على سبيل المثال، قام البنك المركزي السنغافوري بدراسة استخدام عملة رقمية مصدرة من البنك المركزي للاستخدام فيما بين البنوك داخل الدولة، حيث إن العملة الرقمية الجديدة مغطاة بالدولار السنغافوري بشكل كامل، وبالفعل تم إدراج هذه العملة في سلسلة الكتل التابعة لشبكة إيثيريوم، المنافسة لعملة بيتكوين. وتم من خلال هذه التجربة إثبات جدوى استخدام عملة رقمية جديدة تعمل على سلسلة إيثيريوم.
كذلك قام البنك السنغافوري بدراسة إمكانية استخدام هذه التقنيات في أعمال التسوية والمقاصة الفورية، والتغلب على الصعوبات والتحديات المتعلقة بالنظام اللامركزي، كالخصوصية، وتأكيد إتمام العمليات التي يتم تنفيذها. بالنسبة إلى الخصوصية، فهذه ممكن معالجتها من خلال إنشاء سلسلة كتل خاصة بالبنك، وليس باستخدام سلسلة كتل عامة، كما في "إيثيريوم" و"بيتكوين". أما مشكلة إتمام العملية فهذه أصعب، لأن بعض سلاسل الكتل تعمل على مبدأ إثبات الجهد الذي بسببه نجد أن العمليات المالية لعملة بيتكوين، على سبيل المثال، تستغرق عشر دقائق للإدراج ضمن السلسلة، حيث تتم إضافة نحو 144 كتلة إلى سلسلة "بيتكوين" يوميا، وكل كتلة تحتوي على نحو 1600 عملية مالية.
البنوك المركزية تهتم باستخدام السلسلة اللامركزية في عدة مجالات وابتكارات جديدة، كالتي تنتج عن طريق التقنيات المالية الجديدة - راجع مقالا تكلمنا فيه عن "فنتك السعودية"، أو تلك المتعلقة بما يعرف بالدفع عند التسلم - حيث تستخدم العملات الرقمية ليس فقط للدفع من عملة لأخرى، لكن بالدفع مقابل استلام أصل آخر. مشكلة الدفع عند التسلم هي أن العملية المالية تتكون من طرفين يعملان بشكل مختلف، مثلا شراء سندات أو أسهم والدفع بعملة رقمية، حيث تنشأ المشكلة بسبب اختلاف إجراءات إتمام طرفي العملية.
أمر جميل أن يقوم البنك المركزي السعودي مبكرا بدراسة جدوى العملات الرقمية وبنيتها التحتية في استخدامات خاصة بالبنك المركزي والبنوك المرتبطة به، وربما يكون المشروع المقبل دراسة إصدار عملة خليجية رقمية للاستخدام العام، مدعومة بالعملات الخليجية التقليدية، وإتاحتها للاستخدام في شتى المجالات.
ومع ذلك، في حقيقة الأمر، إنها معادلة حساسة وحرجة، وربما صعبة المنال، وإن تمت فقد تقلب الموازين بحق مستقبل العملات الرقمية المشفرة الشعبية، "بيتكوين"، وغيرها. هذه المعادلة، تعني أن البنوك المركزية قد تستطيع إيجاد بنية فنية تحتية متقدمة، موثوقة وداعمة للاستقرار ومنفتحة على التقنيات الحديثة، وفي الوقت نفسه، تتمتع بعدد من مزايا العملات الرقمية المشفرة المفتوحة، التي غالبا تخالف الأساليب المتعارف عليها في البنوك المركزية. وربما يتحقق النجاح لو استطاعت البنوك المركزية إيجاد هذه الحلول وإثبات أنه لربما أخيرا لا توجد حاجة فعلية إلى العملات الرقمية الشعبية المفتوحة.

إنشرها