Author

المراجعة الداخلية على هامش الحراك

|
هناك زخم غير مسبوق تقوده المراجعة الداخلية على الصعيد الرقابي في المملكة. بدأ هذا الزخم بزيادة المتطلبات التنظيمية ذات العلاقة في القطاع الخاص على مدى الأعوام الفائتة ونراه اليوم في القطاع الحكومي كذلك. وربما تكون جهود تفعيل إدارات المراجعة الداخلية بالجهات الحكومية هي من يقود هذا التغيير، إضافة إلى الجهود الاستباقية لتحسين بيئة الرقابة والقضاء على الفساد. أعتقد أن ما نراه اليوم من حراك هو نتيجة لكم هائل من الجهود السابقة التي باتت البيئة العامة مناسبة لظهورها. ويستحق في كل الأحوال أن نصفق لعملية البناء الكبرى التي نراها على سبيل المثال من ديوان المحاسبة، ومعهد الإدارة العامة، وجمعية المراجعين الداخليين، وعدد من الجهات الأخرى التي بذلت وما زالت تبذل كثيرا أخيرا. بعيدا عن المتطلبات التنظيمية وسباق مختلف الجهات للالتزام بهذه المتطلبات رغم التحديات العديدة التي تواجهها، هناك ثلاثة جوانب تتجسد على هامش هذا الحراك وتطرح كثيرا من الأسئلة. الأول، ما مدى تأثير هذا الزخم في قاعدة الكفاءات المختصة المتاحة للقطاع الخاص؟ والثاني، كيف يتعامل قياديو الجهات المتأثرة بهذا الحراك مع إدارة الثقافة الرقابية في مرحلة التغيير؟ والثالث، هل سيشكل هذا الحراك أرضا خصبة يستغلها المستشارون وبيوت الخبرة دون تقديم قيمة مستدامة؟.
عندما ننظر إلى الجانب الأول المرتبط بالتأثير في قاعدة الكفاءات المختصة التي تشمل كل ما يرتبط بالرقابة والمخاطر والمحاسبة حتى الرقابة المختصة كالرقابة على المعلومات والتقنية والصناعات نجد أن السوق تفتقر إلى الدفع كما ونوعا بالمطلوب في هذه المجالات. وقد وصل الوضع في القطاع الخاص، خصوصا من يجب عليه الالتزام بمتطلبات التوظيف لهذه الكفاءات، إلى مرحلة حرجة أصبحت فيها تكلفة المهني المؤهل أكبر بكثير من إمكاناته الحقيقية، وهذا يصنع عند من يريد الالتزام والحصول على الموهبة المؤهلة كثيرا من التشوهات على مستوى الهيكل التنظيمي وسلم الرواتب الفعلي. وتبعا لذلك، تزداد مخاطر التسرب الوظيفي في هذه المجالات بسبب تأثر المتميزين بحالة الطلب في السوق ما يفقدهم العمق المعرفي والخبرة النوعية، ولهذا الأمر تبعات منها ارتفاع أعداد القيادات الهشة التي لا تكمل التجربة المؤسسية بشكل ناضج ومفيد. لا ينحصر هذا التأثير في مجال المراجعة الداخلية فقط، فقد يؤثر في عدة مجالات قريبة تتبادل الكفاءات مع المراجعة الداخلية مثل المراجعة الخارجية والمحاسبة والمالية وإدارة المخاطر، وجميعها يعاني أساسا في القطاع الخاص هذه التحديات.
الجانب الثاني يدور حول فكر الرقابة، وتحديدا الفكر الرقابي داخل المنظمة. وكما هو معلوم، لا يمكن لأنظمة الرقابة داخل أي منظمة أن تعمل بالشكل المطلوب إلا إذا رافق بناءها تغيير في الفهم ومدخلات واضحة ومؤثرة في ثقافة المنظمة ومنسوبيها. وهذا لا يحصل بمجرد إجادة فريق المراجعة الداخلية التواصل مع الإدارات الأخرى، أو نقل الوقائع بشكل شجاع ومستقل، وليس أمرا ناتجا عن أعمال المراجعة الداخلية أو برامجها الاعتيادية. بيئة الرقابة لا تخطو الخطوات المتوقعة منها إلا بتحسن الفكر الرقابي العام داخل الكيان، وهذا يشمل قيادات الكيان وإداراته المختلفة. ومن الطبيعي كذلك أن يعي قائد التغيير الشامل هنا أهمية عملية التوازن بين تحقيق الأهداف والتطلعات وبين تنمية هذا الفكر في ثقافة المكان، فهو المسؤول عن نجاح المراجعة الداخلية كدور مهم وجديد، ونجاح الكيان الذي يقوده بكامل رؤيته وأهدافه.
بعدّ وجود التحدي الأول المرتبط بالكفاءات سنجد أن البحث عن بيوت الخبرة الاستشارية أمرا لا بد منه. وهذا قد يحقق الفوائد إذا نفذ بشكل عملي وتمت مواءمته جيدا، وقد يصبح مجرد مسار للخسائر التي لا تكتشف إلا بعد أعوام. من المعلوم أنه يتاح للجهات الحكومية التي تواجهه صعوبات في عملية البناء الرقابي إمكانية الاستعانة بهذه الأدوار الاستشارية. والحقيقة لا يمكن لأحد أن يلغي الأدوار المهمة التي قد تلعبها هذه الفرق المختصة في أي فترة بناء سريعة تتطلب قدرا من المهارات المهنية المختصة، إلا أن من المعروف أنها جهات تسعى للربح ولن تقوم بدور التأكد من جدوى العمل الذي تقوم به على المدى الطويل. وقد شاهدنا مساهمة الجمعيات المهنية ومعهد الإدارة لسد جزء كبير من هذا الفراغ تدريبا وترتيبا، إلا أن المخاطرة خصوصا مع الفرق المؤقتة التي تمضي عدة أشهر ثم تخرج من البلد دائما موجودة. لهذه الأسباب ربما يكون من المنطقي أن يرافق هذا الزخم عملية بناء للقدرات الاستشارية المحلية المختصة التي سنحتاج إليها دائما بالتوازي مع عملية التدرج في تفعيل أدوار المراجعة الداخلية. ومن الجيد كذلك أن تحدد نطاقات الاستعانة بالبيوت الاستشارية وتقتصر تلك المتاحة للضخم والأجنبي منها على التي تعجز المكاتب الصغرى عن تقديمها، وبهذا يحصل الدعم والبناء بشكل متواز ومستدام.
إنشرها