هل سيعيد الخوارزميون الاعتبار للصحافة والإعلام؟

إننا نعيش في عالم خوارزمي، وعلى أعتاب خورزمة شؤون ومضامير حياتنا برمتها.
ولقد أظهرت لنا الجائحة كم نحن مدينون للشركات الخوارزمية التي لولاها لتوقف كثير من النشاطات الإنسانية وزاد عبء وعبث فيروسها المخيف بمقدراتنا.
تصور لوهلة ماذا سيكون عليه حال التعليم والصحة وكثير من المؤسسات والخدمات العامة في غياب الشركات الخوارزمية التي وفرت لنا تواصلا شبه مجاني لاستمرار بالحياة رغم ما تبثه الجائحة من خوف وقشعريرة.
وإن أخذنا التعليم نموذجا، فلولا الخوارزمية – الثورة الرقمية – لخسرت الأجيال القادمة عاما أو أكثر من سيرتها العلمية والتربوية.
وقس على ذلك نشاطات حيوية أخرى لو استمرت على نهج التواصل التقليدي لقتلت الجائحة أضعافا مضاعفة وأحدثت فوضى عارمة لن يعرف مداها إلا الله.
الجائحة مصيبة كبيرة ولا تزال رغم توافر لقاحات عديدة للوقاية منها. وشأنها شأن الأزمات الكبيرة التي تعصف بالبشرية، لا بد أن يكون هناك من يستغلها أو يرى فيها فرصة لغرض الاستفادة القصوى بقدر تعلق الأمر بتكديس الثروة أو تعزيز القوة والسطوة.
وكانت الشركات الخوارزمية العملاقة مثل جوجل وفيسبوك وأمازون وغيرها في مقدمة المؤسسات التي رأت في الجائحة فرصة سانحة لتراكم الثروة وبسط الهيمنة على مستوى العالم.
وهذه الشركات التي قد لا يتجاوز عددها أصابع اليدين لها حضور ليس على مستوى الدول والشعوب بل على مستوى الأفراد أيضا، "فيسبوك" له أكثر من 2.7 مليار مستخدم نشط.
وللشركات الخوارزمية هذه من الاحتكار ما لم تشهده البشرية في تاريخها.
ورغم مثالب الاحتكار هذا، ذهب تقريبا أغلب المحاولات لغرض تفكيكها أو في أقل تقدير التقليل من هيمنتها وسطوتها أدراج الريح.
لنا أمثلة كثيرة تظهر كيف أن هذه الشركات العملاقة تقف ندا ليس لنظرائها من الشركات والمؤسسات الخاصة والعامة بل لدول عظمى مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا حتى بلد المنشأ، أمريكا، التي هي الأعظم في العالم.
والأنكى، أن هذه الشركات لا تحتكر السوق في بلدها الأصلي فحسب، بل تقريبا في كل بقعة من العالم.
ومن ثم، فإن الاحتكار الذي تمارسه صار عبئا يئن من وطأته كثير من القطاعات والنشاطات وفي مقدمتها الإعلام خصوصا الجرائد والمجلات والقنوات التي تعنى بشؤون الأخبار.
وصار للاحتكار الخوارزمي أوجه لم يعرف العالم لها مثيلا ووصلت السطوة والقوة والهيمنة الخوارزمية درجة صار فيها تقريبا الكل من أفراد إلى مؤسسات وشركات وحكومات يقدم لها ولاء الطاعة.
وأكثر المؤسسات تضررا من الهيمنة الخوارزمية كانت ولا تزال هي التي تعنى بالصحافة والإعلام. لقد شهدت العقود الثلاثة الأخيرة التي عرضت فيها هذه الشركات عضلاتها الخوارزمية الجبارة، انتكاسة كبيرة للصحافة والإعلام انهار فيها النموذج الاقتصادي الذي مكنها من الوقوف على قدميها في السابق.
في نحو 30 عاما، سرقت الشركات الخوارزمية نسبة كبيرة من الريع، خصوصا ريع الإعلان، من المؤسسات الإعلامية التقليدية، واختفت على إثر ذلك آلاف العناوين مشهرة الإفلاس.
والصحف التي أفلحت في مقاومة خورزمة عالمنا من قبل هذه الشركات وابتكرت أساليب جديدة لتمويلها، أوقعت نفسها في فخ خوارزمي جديد طواعية، ربما دون إدراك منها بعواقبه الوخيمة على المستقبل.
أخذت الصحف والمجلات والقنوات الإخبارية تقدم محتواها - أي بضاعتها - للشركات الخوارزمية مجانا وعلى طبق من ذهب.
اذهب إلى موقع أي صحيفة أو قناة إخبارية وستلاحظ كيف أنها تحث المستقبل لمحتواها لوضعه على "الفيسبوك" أو "تويتر" مثلا دون قيد أو شرط.
جريدة كبيرة ومؤثرة مثل الجارديان البريطانية تعتمد في تمويل نشاطاتها إلى حد كبير على تبرعات القراء، مع ذلك تقدم كل محتواها - ما تنتجه من بضاعة - مجانا لـ "فيسبوك" أو "توتير" أو غيرهما.
حتى هذه اللحظة لا يدفع "فيسبوك" مثلا فلسا واحدا لـ "جارديان" مقابل نشر محتواها على منصته الذي يجذب ملايين المتابعين والقراء والتعليقات والمشاركات.
وهذا يعني أن "فيسبوك" يجني مالا كثيرا من جراء استخدامه المجاني ودون شروط للمحتوى النوعي والنموذجي الذي تنتجه "الجارديان" يوميا من خلال ريع الإعلانات التي تظهر عند نشره لهذا المحتوى على صفحاته.
وهذا ينطبق على كل المؤسسات والوسائل الإعلامية التي تتبارى في منح محتواها مجانا لـ "فيسبوك" و"تويتر" وغيرهما من الخوارزميات.
وكانت مصيبة الجائحة بمنزلة جرس إنذار لأن الناس صارت تحصل على المحتوى - البضاعة - بالمجان على "فيسبوك"، وهذا بدوره قلص إيرادات ما تبقى من صحف ومجلات إلى حدود لم تعد مجدية.
وهذا بالضبط ما حدا بالحكومة الأسترالية أن تقف ندا لـ "فيسبوك" وترغمه على دفع ريع مقابل استخدامه لمحتوى الصحف والمجلات ووسائل الإعلام الأسترالية.
وافق "فيسبوك" على مضض، وسأعرج على هذه القصة في القادم من الأيام، بيد أنني أتطلع إلى موقف شجاع من حكومات عربية تفرض فيه على "فيسبوك" أو غيره دفع مستحقات للصحف والمجلات العربية التي تحتضر وقد لا تقوم قائمة لها إن استمر الوضع الراهن على ما هو عليه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي