Author

الاقتصاد الكوري الجنوبي يستعيد عافيته تدريجيا

|
اخترنا هنا كوريا الجنوبية كنموذج آسيوي لما فعلته جائحة كورونا المستجد باقتصاديات الشرق الأقصى التي هي من الاقتصادات العالمية البارزة "رابع أكبر اقتصاد في آسيا بعد الصين والهند واليابان"، فضلا عن عامل آخر هو تأرجح الاقتصاد الكوري الجنوبي في ظل الجائحة ما بين الهبوط والصعود خلال الأشهر التسعة الأخيرة من العام المنصرم.
والحقيقة أن سيئول، رغم نجاحها المشهود المبكر لجهة التصدي للجائحة، فإن اقتصادها - كما اقتصادات جاراتها - تأثر كثيرا إلى درجة أن مسؤوليها أعلنوا أن كوريا الجنوبية تواجه أسوأ أزمة منذ الأزمة المالية في عام 2008، وأن صادرات البلاد، التي تعد الركيزة الأساسية لنموها الاقتصادي، تراجعت بحدة أكثر من أي وقت مضى، وأن هذا التراجع وصل في الربع الثاني من عام 2020 إلى نسبة 9 في المائة تقريبا، ثم ارتفع تدريجيا إلى 11 في المائة، محدثا انكماشا عاما في الاقتصاد خلال العام الماضي بنسبة 1.2 في المائة طبقا لبيانات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، التي جاءت مطابقة لتوقعات صندوق النقد الدولي، علما أن الصندوق توقع انكماش الاقتصاد العالمي بصفة عامة بنسبة 3 في المائة.
هذا المشهد كان ماثلا في شهر يونيو المنصرم أو نحوه. وقتها حاولت الحكومة معالجة الوضع بإنفاق نحو 230 مليار دولار "14.5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي" للمساعدة على تخفيف التداعيات الاقتصادية الناجمة عن الجائحة وحماية الوظائف والحيلولة دون إفلاس الشركات الصغيرة والمتوسطة. علاوة على اتخاذ إجراءات من شأنها تحفيز الاستهلاك في مجالات السياحة والرياضة والفنون والسلع الصناعية والزراعية والاستهلاكية. وكان من شأن هذه الإجراءات أن انتعش الاستهلاك، لكن دون أن يكون بوتيرة كافية في قطاع الخدمات. وقتها حدثت أيضا تراجعات في صادرات البلاد، التي تشكل 40 في المائة من إجمالي الناتج المحلي. حيث تراجعت الصادرات إلى الولايات المتحدة بنسبة 8.3 في المائة، وإلى الاتحاد الأوروبي بنسبة 17 في المائة، ولا سيما صادراتها من السيارات والمنتجات البتروكيماوية. وكان الاستثناء الوحيد هو الصادرات إلى الصين التي ارتفعت بنسبة 9.5 في المائة. لكن من جهة أخرى شهدت واردات البلاد تراجعا أيضا بنسبة 11.5 في المائة، ما أدى إلى تحقيق كوريا الجنوبية لفائض تجاري عام بنحو 3.7 مليار دولار.
نحن الآن في فبراير 2021، فما المشهد الراهن؟ وماذا فعلت سيئول مذاك لتحسين موقعها الاقتصادي؟.
الحقيقة: إن حكومة الرئيس مون جاي إن قامت بكثير، حيث سيطرت بنجاح مشهود على انتشار الوباء عبر آليات وقيود دقيقة مبكرة التزم بها الشعب الكوري الواعي. وقد شملت هذه الإجراءات فرض التباعد الاجتماعي ومنع التواصل المباشر وارتداء الكمامات الطبية، ودون أن تلجأ الحكومة إلى فرض الإغلاق الاقتصادي الكامل، كما فعلت الولايات المتحدة وعديد من الدول الأوروبية. وفي الوقت نفسه قامت بتعزيز قدرتها التنافسية التصديرية من خلال إيلاء اهتمام كبير بقطاع صناعة الشحن والحاويات، ونجد تجلياته في تخصيص صندوق بقيمة 33 مليار دولار لتوفير السيولة لهذا القطاع وغيره من القطاعات الصناعية الرئيسة المماثلة. ومن جهة أخرى استغلت التحول المتزايد نحو العمل والدراسة من المنازل لزيادة صادراتها إلى العالم من رقائق الذاكرة الإلكترونية والمنتجات الإلكترونية والوسائط ذات الصلة. هذه الصادرات المتوقع ارتفاع وتيرتها في ظل العودة البطيئة إلى العمل من المكاتب والمدارس والجامعات على مستوى العالم، فضلا عن عودة أعداد الإصابة بفيروس كورونا إلى الارتفاع في أوروبا والولايات المتحدة.
ومن هنا أجمع عديد من المراقبين على أن كوريا الجنوبية تسير على الطريق الصحيح لاستعادة عافيتها الاقتصادية، وأنها لا تختلف على هذا الصعيد عن الصين وتايوان وسنغافورة، إن لم تفقها، بدليل تسجيل اقتصادها لنمو بمعدل 1.9 في المائة خلال الربع الثالث من العام الماضي، فضلا عن تحقيق صادراتها قفزة هائلة بنسبة 16 في المائة في الفترة ذاتها، كنتيجة لارتفاع الطلب العالمي على ما تنتجه وتبيعه من تكنولوجيات.
وهكذا نجد أن كوريا الجنوبية يحق لها الافتخار بأنها نجحت فيما لم ينجح فيه الاقتصاد الأول في العالم متمثلا في الولايات المتحدة. ونعني بذلك تصديها لأكبر إشكال عالمي مستعص وغير مسبوق وأكثر تباطؤ اقتصادي دراماتيكي منذ الحرب العالمية الثانية، وذلك من خلال العمل على جبهتين بالتزامن "صرامة مبكرة في التعامل مع تفشي الوباء + فتح صنابير المساعدات المالية للمتضررين"، أو كما وصفه الرئيس مون جاي إن حينما قال: "كانت الحكومة تسير على حبل مشدود بين السيطرة على الفيروس والاقتصاد". ففي الوقت الذي كانت فيه كوريا الجنوبية تعاني سبع وفيات لكل مليون كوري، كانت الولايات المتحدة تسجل 600 حالة وفاة لكل مليون أمريكي "طبقا لمعلومات جامعة جونز هوبكنز الأمريكية". وفي الوقت الذي كان فيه الأمريكيون يتخبطون في سياساتهم الاقتصادية ومصابين بالحيرة بين الإصابات والخسائر الاقتصادية، كان الكوريون الجنوبيون يحققون النجاح في السيطرة على الوباء ويعالجون آثاره الاقتصادية بفاعلية وصورة تدريجية.
إنشرها