حزم التحفيز الأمريكية .. إنفاق غير مسبوق في فترات متقاربة قد يقلب السحر على الساحر
حزم التحفيز الأمريكية .. إنفاق غير مسبوق في فترات متقاربة قد يقلب السحر على الساحر
في منتصف شهر كانون الثاني (يناير) الماضي كشف الرئيس الأمريكي جو بايدن عن حزمة تحفيز اقتصادي بقيمة تصل إلى 1.9 تريليون دولار أمريكي، لمواجهة فيروس كورونا المتفشي في الولايات المتحدة.
بالطبع لم تكن تلك الحزمة الأولى لمساندة الأمريكيين في الأوقات العسيرة الناجمة عن تفشي الوباء، فقد سبق تلك الحزمة حزمتان إغاثة في عهد إدارة الرئيس دونالد ترمب، الأولى وافق عليها الكونجرس في آذار (مارس) من العام الماضي بقيمة ترليوني دولار، وعدت وقتها أكبر حزمة تحفيز اقتصادي في تاريخ الولايات المتحدة، والأخرى بقيمة 900 مليون دولار أمريكي وقعها الرئيس ترمب قبل أيام معدودات من خروجه من البيت الأبيض.
تلك الحزم التحفيزية لا تقف أهميتها وثقلها الاقتصادي عند قيمتها المالية الضخمة التي تعد غير مسبوقة في التاريخ الأمريكي، لكن من المهم أيضا أن نلاحظ أنها تأتي في غضون فترات زمنية متقاربة للغاية، إلى الحد الذي جعل صندوق النقد الدولي يتوقع أن تؤدي إلى تعافي الاقتصاد الأمريكي من الوباء بشكل أسرع من نظرائه في الدول المتقدمة.
ونجحت تلك الحزم في تعزيز دخل الأسرة الأمريكية بأكثر من 6 في المائة العام الماضي، وذلك رغم بلوغ معدل البطالة قرابة 15 في المائة قبل أن يصبح جو بايدن رئيسا للولايات المتحدة، ومع بدء توزيع الحزمة التحفيزية الأخيرة التي اقترحها الرئيس بايدن، فإن ذلك سيرفع إجمالي الحزم التحفيزية الأمريكية إلى نحو 20 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2019 الذي يقدر بـ21 تريليون دولار أمريكي.
وغالبا ما ينظر إلى تلك الحزم التحفيزية ويتم تقييمها من زاوية انعكاسها وتأثيرها في الاقتصاد الأمريكي، وهذا لا شك الهدف الأساسي منها، لكن نظرا إلى احتلال الاقتصاد الأمريكي المرتبة الأولى عالميا، والدور المميز والفريد الذي يلعبه الدولار الأمريكي في مسيرة الاقتصاد العالمي، وتأثيره بشكل خاص في القطاع المالي الدولي، فإن التساؤل عن تأثير تلك الحزم التحفيزية الأمريكية في الاقتصاد العالمي يعد أمرا مشروعا وشديد الأهمية.
البروفيسور لوكهارت جيبسون أستاذ الاقتصاد الدولي السابق في جامعة جنوب لندن يعلق لـ"الاقتصادية" قائلا، "أمريكا ليست في حالة ركود عادي، يمكن التغلب عليه بزيادة الإنفاق الحكومي. فالحياة الاقتصادية لن تعود في الولايات المتحدة إلى سابق عهدها بضخ الأموال، فطالما بقي الفيروس سائدا ومنتشرا، فإن الطلب الكلي سيظل متقلصا، ومعدلات الاستهلاك متراجعة، إذ لا تتوافر قنوات للمستهلكين يمكنهم أن ينفقوا فيها الإعانات المالية التي يحصلون عليها من الحكومة الأمريكية، ومن ثم عملية الإصلاح الاقتصادي تتطلب مزيدا من التطعيم".
مع هذا يعتقد البروفيسور لوكهارت أن تلك الحزم يمكن أن تسهم في جزء كبير منها في إنعاش الاقتصاد الأمريكي والعالمي في وقت لاحق، وبأسلوب غير مباشر من خلال مساعدة المواطنين الأمريكيين الذين فقدوا وظائفهم، أن يرفعوا طلبهم فوق المتوسط المعتاد، عند استعادة وظائفهم وفتح الأسواق، فإضافة إلى رواتبهم ستكون لديهم المدخرات التي ادخروها من المساعدات الحكومية، وسيساعد الزخم الناجم عن زيادة الطلب على إنعاش التجارة الخارجية سواء عبر الاستيراد من الخارج بما في ذلك المواد الخام التي تستخدم في صناعة السلع المصنعة في الولايات المتحدة، أو زيادة عمليات التصدير للسلع الأمريكية، ما ينعش معدلات التجارة الدولية.
ويضيف "حتى إذا كانت الأسر والأفراد الذين يحصلون على المساعدات المقبلة من حزم التحفيز لا يستطيعون السفر والسياحة حاليا بسبب القيود المفروضة بين الدول بشأن حركة المسافرين، فإن مدخراتهم تلك يمكن استخدامها في جولات سياحية بمجرد رفع القيود عن السفر، ما ينعش قطاع السياحة على المستويين المحلي والدولي".
البعض الآخر من الخبراء يرى أنه لا يمكن البحث في تأثير خطة بايدن للتحفيز المالي وتأثيرها في الاقتصاد الأمريكي أو العالمي بمفردها، إنما يجب النظر إلى مجمل خطط التحفيز المالي الذي تبنته الولايات المتحدة منذ تفشي وباء كورونا، فإذا كان إجمالي برامج التحفيز في عهد الإدارة السابقة والحالية يبلغ نحو أربعة تريليونات دولار أمريكي، فلا شك أن لذلك تأثيره الاقتصادي الملموس محليا ودوليا.
روزي فريجسون الباحثة في مجال النظم المالية تشير إلى أن مجموعة من الحزم التمويلية بقيمة أربعة تريليونات دولار ستحدث زيادة في المعروض الدولي من الدولار، وستؤدي إلى انخفاض قيمة الدولار، وهذا ستكون له انعكاسات متنوعة على المنظومة الاقتصادية الدولية المرهقة من التداعيات السلبية لوباء كورونا.
وتقول لـ"الاقتصادية"، "يجب أن نأخذ في الحسبان أن زيادة المعروض من العملة الأمريكية، تعني إمكانية زيادة الاقتراض من قبل الاقتصادات الناشئة والنامية بأسعار فائدة منخفضة، ما سيساعد تلك الاقتصادات على زيادة الاقتراض بهدف تحسين قدرتها الإنتاجية".
وهنا تشير روزي فريجسون إلى احتمالين الأول يتعلق بمواصلة أسعار الفائدة الدولية - خاصة على الدولار - البقاء عند مستواها المنخفض في الوقت الراهن، ما يعزز من قدرة الاقتصادات الناشئة على سداد ما عليها من ديون دون أن يلقي ذلك بضغوط سلبية على قدرتها المالية.
أما الاحتمال الآخر فيتعلق بارتفاع أسعار الفائدة نتيجة نجاح البرامج التحفيزية في انتشال الاقتصاد الأمريكي من عثرته، وهنا ربما يكون للوفرة الناجمة عن المعروض من الدولار وعمليات الإقراض المتواصل انعكاسات سلبية على الأسواق الصاعدة، إذ سيكون عليها سداد ما عليه من ديون بأسعار فائدة أعلى، ما قد يدفعها إلى جدولة ديونها بما لذلك من ضغوط مالية على هياكلها الاقتصادية.
مع هذا يعتقد بعض الخبراء أن التأثير الأكثر وضوحا لبرامج التحفيز الأمريكية خاصة برنامج بايدن سيبرز بشكل بين في سوق السندات الأمريكية، بما له من تأثير في عديد من الأصول الدولية الأخرى، وستؤدي برامج التحفيز إلى زيادة معدلات التضخم في الولايات المتحدة، إذ إنها تمثل عملية ضخ مالي في الأسواق، بينما لا توجد عمليا قنوات تعمل لاستيعاب وامتصاص تلك المبالغ المالية.
ومع ارتفاع معدلات التضخم، وزيادة القدرة المالية المتاحة في أيدي المواطنين في الولايات المتحدة، فإن الطريقة الوحيدة لامتصاص تلك الفوائض المالية، لن تكون إلا من خلال رفع أسعار الفائدة في الولايات المتحدة.
ويقول لـ"الاقتصادية" أيدن تامبل الخبير الاستثماري في بنك جي بي مورجان، "قد تمكن السيطرة على أوضاع التضخم من خلال رفع أسعار الفائدة، لكن ماذا لو أرادت الإدارة الأمريكية الإسراع بالتحفيز الاقتصادي الأمريكي بصورة أسرع عبر مزيد من برامج التحفيز المالي الضخمة كالحزمة الأخيرة، فهنا قد ينقلب السحر على الساحر، وقد يشهد الاقتصاد الأمريكي والعالمي أزمة مديونية حقيقية".
ويضيف، "مواصلة "الفيدرالي" الأمريكي رفع أسعار الفائدة للسيطرة على التضخم، تعني زيادة التأثير السلبي لإجمالي الديون الأمريكية التي تقدر حاليا بأكثر من 27 تريليون دولار في الاقتصاد الأمريكي، وعلى الرغم من أن عجز الولايات المتحدة عن سداد ما عليها من أقساط الديون أمر مستبعد في التوقيت الراهن على الأقل، إلا أنها ستواجه بضغط سيشعر به الاقتصاد العالمي نظرا إلى مركزية الاقتصاد الأمريكي".