صندوق الاستثمارات العامة وتحقيق مفهوم أصحاب المصلحة

خرجت الرأسمالية منتصرة بنهاية القرن الماضي، بعدما انسحبت الشيوعية من المشهد الاقتصادي والسياسي تماما، وتحدث العالم حينها عن النظام العالمي الجديد، وقيل: إنها نهاية التاريخ مع ادعاء وصول البشرية إلى أفضل نموذج، وهو الديمقراطية الأمريكية. وانطلقت الرأسمالية الموحشة، التي تعظم الأرباح للمساهمين، وعزز تلك المرحلة الحرجة من التاريخ، تطور مهم لفلسفة ما بعد الحداثة، وسيطرتها تماما على الأفكار، وظهرت نماذجها بشكل مفرط في التسويق، لكن الأمور لم تمض كما يجب، فالرأسمالية التي تعظم حقوق المساهمين، تورطت في مأساة إنرون والانهيارات الكبرى عام 2000، ثم تحولات أشد نحو دخول التنفيذيين في المشهد، خاصة النجاحات العظيمة لأمثال كبار التنفيذيين في "أبل"، و"مايكروسوفت"، و"فيسبوك"، وغيرها من الشركات. لقد قادتنا الثورة الرقمية نحو دخول مفهوم تعظيم حقوق كبار التنفيذيين جنبا إلى جنب مع حقوق المساهمين، ومع الوقت تعاظمت حقوق التنفيذيين حتى طغت تماما، وأصبحت التدفقات النقدية للمساهمين محدودة، في مقابل عوائد وخيارات للتنفيذيين تقدر بالمليارات.
وأصبح السباق نحو قمة قائمة الأغنى في العالم تعني وصول مدير شركة تسلا إلى أعلى القمة، بينما المساهمون لم يحصلوا على بنس واحد، وهكذا تحولت الشركات من تعظيم العوائد الحقيقية، التي تعود بالتدفقات النقدية للمساهمين إلى العوائد الدفترية وتعظيم قيمة الأسهم والمنافع المختلفة للتنفيذيين، ومن بينها المكافآت التي ترتبط عموما بأسعار الأسهم، لذا فقد حتى المساهمون كثيرا من حقوقهم، كما فاقم هذا كله من مشكلة عدم المساواة في المجتمع، كما أن تلك الأخطاء قادت إلى انهيارات عظيمة مع الأزمة المالية العالمية، إذ نتجت فعليا عن انهيار أسعار الأوراق المالية، خاصة السندات، وانهارت المصارف في أسوأ أزمة منذ الحرب العالمية، وهذا قاد إلى أكبر عملية إنقاذ للشركات، تشبه تماما مشروع مارشل لإنقاذ أوروبا، وذهبت أفراح انتصارات عام 1990 تتلاشى، وأصبحت الرأسمالية المتوحشة، التي تهدف فقط إلى تعظيم رقم الأرباح، وليس بالضرورة الأرباح نفسها، في رأي المحللين، مزيجا ساما من أرباح الشركات المرتفعة قصيرة الأجل، ورواتب فلكية للتنفيذيين، ما تسبب في ركود الدخل عند فئة متوسطي الدخل، وتفاقم عدم المساواة، والانهيارات المالية الضخمة الدورية، وانخفاض متوسط العمر المتوقع للشركات، وتباطؤ الإنتاجية، وانخفاض معدلات العائد على الأصول. ومع هذا الانكشاف، قامت الصناديق السيادية بدور المنقذ للوظائف والاقتصاد العالمي عموما، ومع تنامي دور الحكومات في الاستثمار ولعب دور القطاع الخاص، مع الدعم الضخم من مفاهيم الحوكمة والشفافية، ظهر إلى الوجود مفهوم رأسمالية أصحاب المصلحة.
مفهوم أصحاب المصلحة له معان كثيرة، ويدخل فيه فئات عدة مستهدفة، فمع الاعتراف بحق المساهمين، فإن هناك حقوقا في الشركة للموظفين والدائنين والعملاء والحكومات والمنظمين، وهناك حقوق للمجتمع الذي تعمل فيه الشركات والعالم من حيث البيئة والمناخ، فهي مسؤولية اجتماعية واضحة، كما أن أصحاب المصلحة في علم الحوكمة قد يشير إلى كل من يتأثر بالقرار أو يؤثر فيه، وهذا يجعل المدى واسعا جدا، فرغم أن الصناديق السيادية تعمل على حل الفجوة بين المفهومين، فهي تعمل على تحقيق العوائد وتعظيم الأرباح، لكن بقدر ما تحقق للمجتمع مستهدفاته، ومن بينها التوظيف والاستغلال الأمثل للموارد ونمو الناتج المحلي. لكن مع ذلك، فإن مفهوم أصحاب المصلحة بشكله الحالي يواجه مشكلة عميقة جدا، وهي ترتيب الأولويات، فرغم الفرق الواسع بين مفهوم حقوق المساهمين وحقوق أصحاب المصلحة، فإنها جميعا لم تخرج وقد لا تخرج أبدا عن مفهوم اليد الخفية، الذي قدمه آدم سميث منذ عدة قرون، فالجميع لا بد أن يعمل لمصلحته الشخصية، وهذا يجعل ترتيب الأولويات مسألة معقدة جدا، فلا يمكن لشركة ما أن تعمل فقط من أجل تعظيم منفعة المجتمع، بينما هي تستنزف رأسمالها، وتخسر بلا قيود ولا عوائد، ولو حدث هذا، فإنها بحاجة في وقت ما إلى حزمة إنقاذ جديدة، وهذا يعود بنا إلى المربع الأول، كما أن رغبة التنفيذيين في تعظيم منافعهم لا يمكن إيقافها، وستستمر مشكلة التلاعب بالأرقام والأرباح الصورية، كما أن أنظمة الإفلاس تمنح الدائنين سلطة قوية، ولهذا فإن التوازن بين هذه المصالح وتحقيق مفهوم أصحاب المصلحة، يبدو حلما ورديا أكثر من كونه اقتصادا تجريبيا.
في المملكة اليوم لدينا نموذج اقتصادي محكم، يعمل عليه الأمير محمد بن سلمان، ببراعة، حيث تم تطوير رؤية اقتصادية تنموية شاملة، فرؤية المملكة 2030، هي المحرك الأساس لكل التطوير الشامل للحراك الاجتماعي والاقتصادي والتحولات الهيكلية في الحكومة، والانتقال من اقتصاد القطاع العام إلى القطاع الخاص، وتم تطوير برامج واضحة لتحقيق الرؤية، وخلال أربعة أعوام تم تحقيق عديد من المستهدفات ليس هذا مجال شرحها، لكن الأهم هو تطوير صندوق الاستثمارات العامة. وقد تحدث الأمير محمد بن سلمان ولي العهد، عن خطة الصندوق المستقبلية، ويمكن ملاحظة أن الصندوق سيعمل على انتقال الاقتصاد السعودي نحو تحقيق مفهوم أصحاب المصلحة، فالصندوق الحكومي سيعزز الاستثمارات في قطاعات جديدة واعدة، كما سيستثمر ما يتجاوز 150 مليار ريال سنويا، وهي مشاريع تحقق معنى جودة الحياة للمجتمع بكل طوائفه، وأيضا سيتم رفع أصول الصندوق إلى أربعة تريليونات ريال، واستحداث 1.8 مليون وظيفة بشكل مباشر وغير مباشر، ورفع مستوى المحتوى المحلي إلى 60 في المائة، والإسهام في الناتـج المحلي الإجمالي غير النفطي بقيمة 1.2 تريليون ريال. هكذا يمكن تحقيق مفهوم أصحاب المصلحة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي