Author

الإنسان والتفاعل مع الطبيعة وتنظيم الحياة

|

لماذا يسود الإنسان العالم؟ ثم من أين أتى بكل هذه الإمكانات المتجددة عصرا بعد آخر، وربما يوما بعد آخر؟.
هذان سؤالان مهمان لكل زمان، وفي كل مكان، وفي تكرارهما سعي إلى فهم أعمق لقضايا الحياة وتجدد معطياتها. إذا بدأنا بمحاولة الإجابة عن السؤال الأول، فلعلنا نقول: إن سيادة الإنسان على العالم نابعة من الخصائص التي منحها الله تعالى لعقله البشري وميزه بها عن عقول باقي مخلوقاته. ففي عقل الإنسان جملة من الصفات والمزايا التي تجعله: باحثا دائما عن الاكتشاف، وقادرا على الإبداع، ومصدرا مولدا للمبتكرات، وبانيا للمخترعات. هو الذي يستطيع طرح المسائل، وتحليل ما يرتبط بها من موضوعات، وهو المتمكن من إيجاد الحلول، ومحاكمة الخيارات. وهو القادر على اكتساب المعرفة المتراكمة ممن سبقوه إليها، وهو المتمكن من نقل المعرفة إلى من يبحثون عنها. وهو الذي يستطيع التواصل والتعاون وتبادل المصالح مع الآخرين، والعمل على بناء المجتمعات.
إذا انتقلنا إلى محاولة الإجابة عن السؤال الثاني حول الإمكانات المتجددة التي استطاع الإنسان بناءها، فلا شك أننا نجد أن عقل الإنسان وحده لم يكن كافيا لبناء كل هذه الإمكانات. فخصائص ومزايا عقل الإنسان لم تكن لتمكنه من الوصول إلى ما وصل إليه لولا الخصائص التي منحها الله تعالى للطبيعة من حول الإنسان، التي تمثل ميدان عطائه. فخصائص هذه الطبيعة جعلتها ثرية بالموارد، وغنية بالأسرار، وحافلة بالمحفزات التي تتفاعل مع عقل الإنسان، لتكون النتيجة معطيات متجددة بدأت واستمرت عبر العصور، وتمتد حاليا، بلا حدود، نحو مستقبل يحمل آمالا عريضة. ولعلنا نتذكر هنا الآية الكريمة التي تقول: "وما أوتيتم من العلم إلا قليلا"، ففي هذه الآية تحفيز على مزيد من التعلم، ومعلومة أن اكتشاف الجديد دائما متاح.
تشعبت اهتمامات عقول البشر بالطبيعة المحيطة بهم. راح بعضهم يدرس تكوينها وثراء معطياتها: الجبال بما فيها من أحجار ومعادن مختلفة، والغابات بما تحتويه من نباتات وأشجار وثمار، والأنهار بما تعطيه من ماء عذب، والبحار وامتدادها وتغلغلها بين أراضي اليابسة، ثم المخلوقات الأخرى المرتبطة بالأرض منها، وتلك المحلقة في السماء، والثالثة السابحة في البحار والأنهار. استفاد الإنسان من كل ذلك، ليؤمن احتياجاته الأساسية: المأكل من النباتات واللحوم، والمسكن في المباني المكونة من الحجارة وأخشاب الأشجار، إضافة إلى الملبس من المواد والجلود المختلفة. ولم يقتصر الأمر على تأمين هذه الاحتياجات، بل امتد إلى مبتكرات متجددة شملت وسائل نقل مختلفة برا وبحرا وجوا، وأجهزة إلكترونية تتعامل مع الأجزاء الدقيقة غير المرئية من المادة، ووسائل اتصالات متعددة سلكية ولاسلكية، وصولا إلى الذكاء الاصطناعي. كل هذه المعطيات جاءت نتيجة التفاعل المتجدد بين قطبي الحياة العقل والطبيعة.
ولئن كانت دراسة تكوين الطبيعة والإبداع والابتكار فيها من نصيب بعض عقول البشر، فإن بعضا آخر من هذه العقول اهتم بدراسة تنظيم أمور حياة الإنسان والمجتمعات الإنسانية، ووضع قواعد لتعامل الإنسان الفرد مع الأفراد الآخرين، وتعامل المجتمعات مع المجتمعات الأخرى، وتعامل الجميع مع معطيات الطبيعة. في إطار الطبيعة، هناك حدود بين اليابسة والبحر، وحدود لمسيرة الأنهار، وأماكن لتجمع البشر، وشراكاتهم في توفير بيئة العمل المشترك، والتعاون على تأمين احتياجاتهم الأساسية، وإطلاق العنان لطموحاتهم المتجددة. أضاف الإنسان، في تنظيمه لشؤون الحياة، حدودا سياسية إلى الحدود الطبيعية، وأنشأ مبدأ الدولة، ووضع أنظمة مختلفة لإدارة شؤون الإنسان فيها. وبرزت دول كبرى ودول صغرى، واختلفت الدول عبر التاريخ وتقاتلت، وكانت كلمة الأقوى على الأضعف هي السائدة. ولم يقتصر الأمر على الخلاف فقط، بل شمل التوافق أيضا. فقد اتفقت الدول عبر التاريخ وأنشأت تحالفات مختلفة لأسباب متعددة بينها السياسي، والاقتصادي، وربما العسكري، الذي يحقق المصالح المشتركة للدول المتحالفة.
نحن في هذا العصر نعيش في عالم متقدم علميا، تمكن من اكتشاف أسرار كثيرة حول الطبيعة وإمكاناتها، كما استفاد من هذه الاكتشافات في تقديم كثير من الإبداعات والمبتكرات. هذا العالم المتقدم علميا مقسم إلى دول عديدة تتنافس على امتلاك زمام المعرفة والعلم المتقدم والتفوق في الإبداع والابتكار، وترجمة ذلك إلى قوة اقتصادية ومكانة دولية. في سبيل ذلك تعقد هذه الدول تحالفات تسعى من خلالها إلى تفعيل دورها في العالم وتعزيز مكانتها فيه. ولا تنضم أي دولة إلى أي تحالف، دون أن تتطلع إلى الاستفادة منه سواء كانت علمية أو اقتصادية، أو ربما عسكرية أيضا، أي: إن مثل هذه التحالفات هي أساسا تحالفات مصالح، يجب أن يشعر الجميع فيها أنهم رابحون.
منظمة الأمم المتحدة United Nations هي أكبر المنظمات الدولية في العالم، فهي تضم في عضويتها 193 دولة، أي: أغلب دول العالم، فضلا عن دولتين مراقبتين. ولهذه المنظمة 17 منظمة دولية فرعية مختصة في قضايا مختلفة تهم جميع دول العالم. وهناك منظمات دولية أخرى عديدة، بينها منظمة شهيرة مهتمة بالتنمية الاقتصادية تدعى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD، وتضم في عضويتها 36 دولة، وتلقب عادة بنادي الدول الغنية. ثم هناك منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ APEC، ويضم في عضويته 21 دولة. وتجمع مجموعة العشرين G20 دولا تتمتع بحجم اقتصادي متميز، وتضم في عضويتها 19 دولة، إضافة إلى الاتحاد الأوروبي. ويتوزع أعضاء هذه المجموعة على مختلف قارات العالم. والسعودية هي الدولة العربية الوحيدة التي تتمتع بعضوية هذه المجموعة، وقد شهد تشرين الثاني (نوفمبر) من العام الماضي عقد قمة هذه المجموعة برئاسة المملكة ورعايتها. وهناك منظمات ومجموعات عالمية مختصة تهتم بموضوعات مختلفة لعلنا نطرحها في مقالات مقبلة بمشيئة الله.
وهكذا نرى في مشهد الحياة أمامنا منجزات علمية وتقنية متنامية، ونرى أيضا معطيات تتمثل في دول ومنظمات وتشريعات تهتم بحوكمة شؤون الحياة. والأمل أن تسعى التوجهات المستقبلية للجميع نحو مصلحة العالم بأسره، خصوصا أن الدرس القاسي لفيروس كورونا الذي يهدد الجميع لا يزال قائما.

إنشرها