Author

عام مضى .. وعام آت

|
عضو جمعية الاقتصاد السعودية
نودع نهاية عام مضى، قد يكون واحدا من أقسى الأعوام التي مرت على البشرية خلال قرن مضى، بكل ما حمله من تداعيات قاسية ومؤلمة لم يسبق لها مثيل في حياتنا المعاصرة، ونتأهب لاستقبال عام جديد بالدعاء المخلص لله - جلت قدرته -، أن يكون عام خير وسلام واستقرار ونماء على بلادنا وأهلها خاصة، وعلى العالم بأسره عامة، وأن تنجلي غمة هذا الوباء عاجلا غير آجل. سنرى جميعا كثيرا من التقارير والمؤتمرات والمقالات، وسيليها بكل تأكيد كتب ودراسات لا حصر لها، تتركز على قراءة وتحليل جميع تطورات وأحداث عام 2020 من منظور مختلف العلوم والتخصصات، وهذا ليس بالأمر الجديد، فلا تزال تلك النوعية من الأطروحات تتناول أحداثا عظمى ومنعطفات تاريخية سبقتها بأعوام وعقود طويلة، وتخضع للدراسة والبحث والتحليل، وتحاول حتى تاريخه استخلاص أهم الأسباب والنتائج التي اقترنت بتلك التطورات الهائلة في حياة البشرية.
كل هذا ليس مقام اهتمام موضوع المقال هنا، إذ إن المعني هنا هو كل إنسان منا بما يختص به من سمات وخصائص وأوضاع حياتية ومعيشية، تقتضي تطورات حياته من فترة إلى أخرى أن يولي ذاته ما تستحقه من مداواة ومراجعة وإعادة تقييم لكل جوانب حياته، الإيجابي منها وغير المرضي عنه على حد سواء. قد يتاح لأي منا الاطلاع على ما لا نهاية له من كتابات ومعالجات إعلامية مختلفة، تتمحور حول كل ما حدث خلال عام 2020، وستمتد بالطبع إلى وضع كثير من التوقعات والتنبؤات خلال العام الجديد وما سيليه من أعوام أو عقود مقبلة، وقد لا يكون لكل ذلك الاطلاع الموسع من أي إنسان منا في حياته الخاصة، إذا كانت ذاته هي الغائب الأكبر والأهم في خضم إفراطه الشديد في ملاحقة ما يدور حوله من تطورات، فلنفسك عليك حق وواجب لا بد من الوفاء بهما، وأن تحتل موقعها المستحق من أولويات كل منا، فيتداركها بما تستحق من اهتمام وتشجيع في جانبها الخير، ونصح وتقويم ومعالجة في جانبها المخالف أو البعيد من قول وفعل الخير، ولا يعني ذلك تجاهل المرء ما يدور حوله من أحداث وتطورات، بل يضع كل منا الأمور في نصابها المستحق والسوي، دون زيادة مفرطة لأي جانب على حساب آخر.
تفيد العودة الدورية بالنظر والتأمل الفاحص للماضي لأي إنسان منا، إذا ما وظفت تلك العودة لأجل استذكار القرارات الخاطئة ومراجعتها بهدوء وتأن، قبل استذكار القرارات الصائبة والاحتفال بها إلى الدرجة التي يطغى ضجيجه على صوت النفس اللوامة، وعلى أنه لا غنى أبدا عن الصديق الناصح الصدوق في أي مرحلة من مراحل حياتنا، إلا أنه لا ولن تتقدم أهميته بالنسبة لكل إنسان على أهمية امتلاكه لنفس تلومه بين حين وآخر، إما على تجاوزات مخالفة قد صدرت منه، أو أعمال خير وإنجازات فاتته لم يبذل لأجل الوفاء بها ما كان واجبا.
إنها المراجعة الدورية للنفس، والمواجهة الشجاعة والصادقة مع الذات، ولا يجب أن يطول وقتها إلى الدرجة التي قد يفقد معها المرء زمام إدراكه لحاضره ومستقبله، وقد يقع دون وعي منه في أسر الماضي الذي لن يعود، وفي الوقت ذاته لا يجب أن يتجاهل تلك المواجهة مع الذات خوفا أو هروبا من مواجهة الأخطاء، أو يمر على ماضيه القريب أو حتى البعيد مرور الكرام دون تأمل وتدقيق، ما سيفقده ويفوت عليه حصد ثمار النتائج اللازمة لإعادة شحن همته وطموحه من جانب، ومعالجة وتصويب أخطائه وأسبابها من جانب آخر. إن الاتزان هو المطلوب في هذه المهمة الواجب الوفاء بها من فترة لأخرى، ويمكن للمرء اكتساب ذلك الاتزان ذاتيا وتنمية مهاراته في هذا الشأن مع تقدم العمر، وبحال اعتاد على تكرار هذه المراجعة واستذكار تلك الأجزاء من الحياة التي لن تعود، وكيف أن ما سيخرج به من نتائج حقيقية، سيضاف بكل تأكيد إلى رصيد المرء من الحكمة والرشد والخبرة والصبر والحلم التي بفضلها يمكن للإنسان أن يصقل شخصيته، ويضاعف كثيرا من ثقته بنفسه، ويحقق القدرة على إضاءة حياة الآخرين من حوله من أبناء وأقارب وأصدقاء وزملاء ومعارف.
قد يلوم المرء نفسه بصورة أقسى مما تحتمل على كثير مما فاته، وقد لا يفعل أي شيء من ذلك، وفي كلتا الحالتين لا يجب أن ينسى أن الله - جلت قدرته - هو من قدر الأقدار، وقسم الأرزاق بين عباده "وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَىٰ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ" (آية 71 سورة النّحل)، "وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ" (آية 27 سورة الشورى). وبعدئذ، فإن الغاية هنا هي ألا يتوقف المرء عند قديم مضى، فيحمي نفسه من الغرق في حلقته المفرغة، وفي الوقت ذاته لا يصح أن ينفصل تماما عن ماضي حياته، فلا يراجعه ويبذل الجهد اللازم للتخلص من أسباب تقصيره وخطئه، والعمل في حاضره ومستقبله على عدم تكرار تلك الأخطاء، والتركيز على تنمية الجوانب الصائبة في حياته وتقويتها قدر الإمكان. نسأل الله جميعا أن يجعل عامنا المقبل وما يليه أفضل وأجمل، ويكلأ قادتنا - أيدهم الله - وبلادنا الغالية ومجتمعها النبيل برحمته وفضله وأمانه، ويتحقق لوطننا العظيم مزيد من التقدم والنهضة والاستقرار، ولجميع أنحاء العالم.
إنشرها