Author

نتفق في التفكير ونختلف في النتائج

|

أستاذ هندسة الحاسب في كلية علوم الحاسب والمعلومات بجامعة الملك سعود

لعلنا نبدأ هذا المقال برأي في "دور التعليم في التفكير"، صاحبه ألبرت أينشتاين Albert Einstein أحد أبرز علماء القرن الـ 20. يقول هذا الرأي: "ليس التعليم تعلما للحقائق (فقط)، بل هو تدريب للعقل على التفكير". لا يشمل قول أينشتاين كلمة فقط المطروحة بين قوسين لكنها بالطبع قائمة، وقد أهملها صاحب الرأي، ربما قاصدا ذلك، كي يركز على جانب التفكير وتدريب العقل البشري. ويضيف صاحب هذا الرأي رأيا آخر يقول: "يجب أن يبدأ النمو الفكري للإنسان عند ولادته ويتوقف فقط عند رحيله"، وفي هذا الرأي دعوة إلى اهتمام الأسر بتنمية تفكير أبنائها ابتداء من ولادتهم وخلال نشأتهم، وفيه أيضا دعوة إلى الأفراد البالغين تطلب منهم الاستمرار في تنمية مهارات التفكير دون انقطاع طيلة أعوام العمر.
يتوافق الرأيان السابقان مع التوجهات الحديثة في التعليم. فعلى سبيل المثال، طرحت بوصلة التعلم 2030 Learning Compass التي صدرت عام 2019، في إطار مشروع مستقبل التعليم والمهارات 2030 Future Education and Skills الذي ترعاه منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD، أربعة عناصر رئيسة يحتاج إليها الإنسان المتعلم في حياته. وتشمل هذه العناصر: المعرفة Knowledge، والمهارات Skills، والقيم Values، إضافة إلى نظرة الإنسان إلى ما حوله ومواقفه وتوجهاته Attitude. وتبين البوصلة أن المهارات المطلوبة تتضمن مهارات ذات طبيعة إدراكية وما بعد الإدراكية، ويبرز في مضمون هذه المهارات كل من: التفكير النقدي Critical Thinking، والتفكير الإبداعي Creative Thinking. وتضيف البوصلة إلى هذه المهارات: مهارات اجتماعية وعاطفيةSocial & Emotional، ومهارات مادية تطبيقية Physical & Practical أيضا.
وفي إطار التوجهات الحديثة، سابقة الذكر، تبرز توجهات كثير من الجامعات العالمية، ومنها جامعة كاليفورنيا - بيركلي UC-Berkeley، تتضمن صفات يطلب توافرها في خريجيها. ومن هذه الصفات صفتا: التفكير، وحل المشكلات". وتكتسب هذه التوجهات أهمية خاصة مع تزايد التنافس على الإبداع والابتكار في المجالات التقنية والاجتماعية، ومع تواصل التوسع والتعمق في معطيات الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته المختلفة في شتى المجالات.
التفكير بالطبع عمليات ذهنية Mental Operations، ميز الله تعالى بها العقل البشري، ويستطيع جميع البشر التفكير وتنفيذ هذه العمليات، وكذلك العمل على تطويرها. ويتم تنفيذ هذه العمليات عند طرح أي مسألة من مسائل الحياة للتفكير. وتشمل هذه العمليات ثلاث مراحل متداخلة ومتكاملة هي: التعرف Apprehension على المسألة المطروحة، وتحديد صفاتها وخصائصها Judgment، واستخلاص النتائج بشأنها Inference. وإذا كان للموهبة أو الذكاء دور في تفعيل هذه العمليات، فإن هذا الدور يكون في مجال الموهبة ذاتها. فإذا كانت الموهبة حسابية رياضية الطابع، فإن هذه العمليات ستكون أكثر فاعلية في هذا المجال، والأمر كذلك أيضا في المواهب اللغوية وغيرها. لكنه لا بد من التأكيد هنا على حقيقة أن العمليات الذهنية قابلة للتطوير واكتساب الخبرة، لذا نجد أصحاب الخبرة في المهن المختلفة قادرين على تحقيق تعرف أفضل على المسائل المطروحة عندما تكون في مجال عملهم، إضافة إلى تحديد صفاتها وخصائصها بشكل أوضح، واستخلاص النتائج المفيدة بسرعة أكبر.
بناء على ما سبق، يمكن القول: في حال طرح مشكلة محددة على مجموعة من الأشخاص، فإن النتائج المستخلصة ستأتي متماثلة عندما يكون التعرف عليها متكاملا، وتحديد صفاتها واضحا من قبل الجميع. هذا القول صحيح في حالات، وغير صحيح في حالات أخر. هو صحيح تماما في المسائل العلمية التي تخضع لدراسات موضوعية وحاسمة تقدم حقائق لا لبس فيها. وهو صحيح أيضا في المسائل الاجتماعية وقضايا الحياة عندما تكون توجهات الدارسين وأمزجتهم بشأنها متماثلة. أما إذا اختلفت هذه التوجهات، فإن النتائج ستختلف، لأن التفكير في مرحلة استخلاص النتائج يكون موجها، ولا يعتمد على عمليات التعرف وتحديد الخصائص فقط، بل يعتمد على التوجه الذاتي أيضا. والفكرة هنا أن العمليات الذهنية في القضايا غير الحاسمة علميا، هي عمليات تخضع للاختلاف، لأنها تتأثر بقناعات الإنسان وتوجهاته ومزاجه الشخصي.
وإذا أردنا أن نوضح ما سبق بمثال، فلعلنا أن نطرح مشكلة التدخين على عدد من الأشخاص. تقول مرحلة التعرف على هذه المشكلة، إن التدخين عادة، وتضيف أيضا أن لهذه العادة قطاعا اقتصاديا كبيرا في الدول المختلفة يضم عاملين في زراعة التبغ، وتجارته، وتصنيعه، والدعاية والإعلان لترويج منتجاته. أما النظر في مرحلة تحديد خصائص المشكلة، فيقول إنها ممتعة للبعض، لكنها مكلفة ومضرة لصحة الإنسان، تفسد تدريجيا جهازه التنفسي، وربما أجهزة أخرى في جسده، وتؤدي، إن استمر فيها، إلى اعتلال صحته.
بعد عمليتي التعرف، وتحديد الخصائص تأتي مرحلة استخلاص النتائج التي تتأثر بالتوجهات. قد نجد توجها يعطي نتيجة تقول: إن مشكلة التدخين جنون إنساني، لأن فيها ضررا إنسانيا يؤذي الفرد ليؤذي بذلك المجتمع أيضا. وعلى ذلك، لا بد من منع التدخين تماما وإلغاء قطاعه، لأنه قطاع يحمل السوء لحياة الإنسان والمجتمعات. وقد نجد توجها آخر تقول نتيجته: إن في التدخين متعة لا يجب حرمان الناس منها، وكل إنسان مسؤول عن ذاته، وهو حر في حياته الشخصية يستمتع فيها كما يشاء وله حق أن يوازن بين ضرره منها ومتعته فيها. ثم قد نجد رأيا ثالثا يدرك تناقض الرأيين السابقين ليدعو في النتيجة التي يتوصل إليها إلى ترك الأمر حرا كما في الرأي الثاني، لكن مع الدعوة إلى الامتناع عن التدخين، بسبب أضراره التي ركز عليها الرأي الأول، إنما دون اللجوء إلى سلطة المنع. أي: إن هذا الرأي الثالث يود التخلص من التدخين وأضراره، لكن بإرادة حرة.
علينا جميعا أن نفكر، فالعقل البشري هدية ثمينة من رب العالمين. علينا أن نفكر في المسائل العلمية التي تعطي نتائج حاسمة، كي نصل إلى مبتكرات تنفع في تنمية المجتمعات. وعلينا أن نفكر أيضا في القضايا الاجتماعية والإنسانية غير الحاسمة التي تعتمد على التوجهات، فإن اختلفت النتائج، فإن في الحوار ومقاربة الأهداف ما يفيد في تقارب التوجهات، وتحقيق التعاون والعمل المشترك.

إنشرها