Author

المؤسسة الذكية .. تقنية متجددة وتعلم مستمر

|

هناك مصطلحات تطرح في الأحاديث والنصوص المكتوبة دون أن يكون هناك تعريف لها يحدد معناها بدقة ووضوح. ويرى كثيرون خطأ ذلك، لأن الأحاديث والنصوص يجب أن تكون واضحة جلية لا لبس فيها ولا غموض. وفي الوقت ذاته يرى آخرون أيضا أن بعض المصطلحات يجب أن تكون عامة ومرنة المعنى لأنها تخضع لتطور معطيات الحياة، تستلهم معناها من مستوى التطور الذي وصلت إليه. فعندما نستخدم مصطلح الحاسوب المتفوق Supercomputer اليوم، فإننا نعني صفات مختلفة للحاسوب، بل متقدمة جدا، مقارنة بتلك الصفات التي كنا نقصدها عند ذكر ذات المصطلح قبل عقود. وينطبق الأمر على مصطلح الذكي Smart عند استخدامه في وصف الأشياء أو المؤسسات، لأن المعنى المقصود بهذا الوصف مرتبط بالتطور التقني والصفات المتجددة للتقنية، فضلا عن خصائص ثقافة العمل ومستوى استخدام معطيات هذا التطور والاستفادة منها.
بناء على ما سبق، نجد أن تعاريف كثير من المصطلحات تتسم بالعمومية والمرونة كي تستجيب للتجدد الذي تشهده معطيات الحياة. وإذا أردنا الآن تعريف المعنى المقصود بالمؤسسة الذكية، فلعلنا نعود إلى التعريف العام المرن للمدينة الذكية الذي أطلقه الاتحاد الدولي للاتصالات ITU. يقول هذا التعريف المرن: إن المدينة الذكية مدينة مبتكرة مستدامة، تستخدم تقنيات المعلومات والاتصالات، إضافة إلى وسائل تقنية أخرى، من أجل تحسين مستوى الحياة، وتطوير كفاءة أعمال المدينة وخدماتها، وتعزيز قدرتها على المنافسة، مع تأكيد فاعلية استجابتها لمتطلبات الأجيال الحالية والمستقبلية في القضايا الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، وكذلك الثقافية. وبالطبع يجب أن تضم المدينة الذكية مؤسسات ذكية تتمتع بصفات المدينة الذكية العامة والمتجددة.
ولعلنا بناء على ما سبق، نستطيع وضع تعريف عام للمؤسسة الذكية يتسم بالمرونة، حيث يتضمن وصفا عاما لها، ويحدد الغاية التي تتطلع إليها، كما يبين الوسائل التي تعتمدها في سعيها لتحقيق غايتها. يشمل الوصف أن تكون المؤسسة مبتكرة بمعنى متميزة فيما تقدمه، ومتجددة بمعنى تمتعها بالقدرة على الاستمرار. أما الغاية التي تشغلها فتتمثل في كفاءة قيامها بالعمل وقدرتها على المنافسة، وتوجهها نحو الإسهام في تأمين حياة أفضل للأجيال الحالية والمستقبلية. ونصل إلى الوسائل التي تعتمدها في سعيها إلى تحقيق غايتها لنجد أنها تشمل: التقنية الرقمية، ووسائل تقنية أخرى تبعا لطبيعة عمل المؤسسة.
هل يبدو هذا التعريف كافيا؟ إنه فعلا يتضمن وصفا وغاية ووسائل للمؤسسة الذكية، وهو أيضا يتسم بالمرونة التي تمكن المؤسسة من الاستجابة لتطورات ومتغيرات الحياة، لكنه يبقى غير كاف. فهناك أمران مهمان في إطار الوسائل، ينبغي أخذهما في الحسبان والاستجابة لمتطلباتهما، وذلك نظرا لتأثيرهما الفاعل في تميز المؤسسة الذكية وتجددها. يتطلب الأمر الأول تأهيلا مستمرا للإنسان لتفعيل فكره وعطائه والتزامه بالعمل، ويمكن تأمين ذلك عبر تشجيع وتوفير تعلم مستمر لمنسوبي المؤسسة، إضافة أيضا إلى الاهتمام بالتوعية المستمرة للمستفيدين من معطياتها.
أما الأمر الثاني المطلوب لتميز المؤسسة وتجددها فيتعلق بثقافة العمل فيها، نظرا لتأثير هذه الثقافة في أداء المؤسسة. وقد تحدثنا في مقال سابق عن ثقافة الجودة في المؤسسة، ولا شك أن هذه الثقافة هي الثقافة المنشودة للمؤسسة الذكية. فهي تسعى إلى أن يتمتع العمل في المؤسسة بصفتين رئيستين: أولهما تميز مستوى أداء العمل، وثانيهما تطوير العمل بشكل متواصل لا يتوقف. ويحتاج ذلك إلى الاستجابة إلى ثلاثة متطلبات رئيسة: أولها التعلم المستمر للعاملين كما أشرنا سابقا، وثانيها أنظمة العمل ذاتها، التي يمكن أن تعيق العمل أو تفعله وقد تحدثنا في مقال سابق عن توجهين مختلفين في هذا الإطار: توجه ضوابط الشك التي تعيق الأداء، وتوجه انفتاح الثقة الذي يعزز هذا الأداء ويطوره، لكن فقط عندما يتمتع أصحاب الثقة بالجودة الشخصية التي تشمل: الأمانة، والمعرفة، والنشاط.
ونأتي إلى المتطلب الثالث لثقافة العمل المنشودة ويتمثل هذا المتطلب في السعي إلى الاستفادة القصوى من استخدام التقنية الرقمية. وقد ورد هذا الاستخدام كما هو موضح في بداية هذا المقال في تعريف المدينة الذكية كوسيلة من وسائل بنائها، ثم أوردناه أيضا، في هذا الإطار، في تعريف المؤسسة الذكية. ولا بد هنا من ملاحظة أن التقنية الرقمية كانت إحدى وسائل الدفاع المهمة في مواجهة جائحة كورونا، حيث مكنت مؤسسات كثيرة من استمرار العمل في المهمات التي يمكن تنفيذها عن بعد. وقد أوضحت هذه الحالة أن المؤسسات رغم أنها كانت تستخدم الرقمية، إلا أن هذا الاستخدام لم يكن كافيا، وكان بعيدا عن تحقيق الاستفادة القصوى من هذه التقنية.
لا شك أن جائحة كورونا رغم مآسيها قد أطلقت دون أن تدري صافرة توعية موجهة إلى جميع المؤسسات، تقول لها: إن التقنية الرقمية بين أيديكم، وأنتم لا تستفيدون منها بالقدر الذي يمكن أن تعطيكم من فوائد، وعليكم الآن استخدامها بعقلية الاستفادة القصوى منها، لأنها وسيلة رائعة ومتجددة لتطوير الأداء. بعد هذه الصافرة، لن تكون المؤسسات بعد جائحة كورونا كما كانت قبلها. كثير من المكاتب الإدارية للمؤسسات ستنتقل من مبانيها في أحياء العمل في المدن إلى غرف في المنازل موزعة على مسافات واسعة. وسيكون على المؤسسات أن تكون أكثر اهتماما بجودة العاملين فيها أمانة ومعرفة ونشاطا، كي لا تنتقل قيود الإدارة المباشرة والشك في العاملين إلى نظام العمل الرقمي، فتعيق الأداء وتحد من الاستفادة المأمولة من التقنية الرقمية.
نريد لجميع مؤسساتنا أن تكون مؤسسات ذكية تشجع التعلم المستمر لمنسوبيها وتوفره، وتبني ثقافة الأداء المتميز والتطور المتواصل والثقة بالعاملين، بأمانتهم ومعارفهم ونشاطهم، وتستخدم التقنية الرقمية استخداما فاعلا يحقق الاستفادة القصوى منها. بذلك تستطيع مؤسساتنا أن تكون قادرة على التميز والمنافسة التي يشهدها هذا العصر على نطاق واسع، والإسهام أيضا في بناء المدن الذكية، بل في إقامة الوطن الذكي.

إنشرها