Author

الاقتصاد الدائري وظاهرة تغير المناخ

|
جاء في التقرير السنوي 2019 لمؤسسة إلين ماك آرثر وهي مؤسسة تقوم بتطوير وتعزيز فكرة الاقتصاد الدائري أهمية سرعة البدء في تطبيق الاقتصاد الدائري ومدى ضرورة هذا النهج لعلاج ظاهرة تغير المناخ. وتمثل الطرق المتبعة حاليا لمعالجة أزمة تغير المناخ العالمية صورة غير مكتملة، حيث يغيب عنها عنصر الاقتصاد الدائري الذي يعد خطوة أساسية نحو تحقيق أهداف المناخ. وفي حال نجحنا في تطبيق الاقتصاد الدائري فإننا سنحقق تحولا يدفعنا إلى ما هو أبعد من نتائج الجهود المبذولة لتقليل الانبعاثات في ظل النظام الاقتصادي الخطي القائم على الاستخراج ثم التصنيع ثم التخلص. إن الاقتصاد الدائري يوفر استجابة منهجية للأزمة من خلال خفض الانبعاثات وزيادة المرونة في مواجهة آثارها. وتشمل فوائد تطبيق الاقتصاد الدائري تحقيق أهداف أخرى مثل إنشاء مدن أكثر ملاءمة للعيش، وتوزيع القيمة على نطاق أوسع داخل النظام الاقتصادي، وتحفيز الابتكار، ما يجعل الاقتصاد الدائري مساهما فعالا في تحقيق مستقبل مزدهر خال من الكربون.
أضحى العالم كله الآن على دراية بأزمة المناخ التي بدأت آثارها تظهر بالفعل. ولا شك أن انبعاثات غازات الدفيئة المسببة لتغير المناخ هي نتاج اقتصادنا الاستخراجي الذي يعتمد على الوقود الأحفوري ولا يدير الموارد بأسلوب طويل المدى. ونحن في حاجة إلى تغيير تدريجي يضع العالم على المسار الصحيح لتحقيق انبعاثات صفرية بحلول عام 2050 لتلبية الهدف المنصوص عليه في اتفاقية باريس والمتمثل في خفض الحرارة 1.5 درجة مئوية. وما يدعو للأسى أنه حتى إذا تم تحقيق هذا الهدف فمن المتوقع أن تصل التكاليف التي يتحملها الاقتصاد العالمي من جراء تغير المناخ إلى 54 تريليون دولار بحلول عام 2100، وأن ترتفع هذه التكاليف بشكل حاد مع كل زيادة أخرى في درجات الحرارة. إن الحوافز التي تدفعنا لمواجهة هذا التحدي لا يرقى إليها شك.
وقد تركزت الجهود المبذولة لمعالجة الأزمة حتى الآن على الانتقال إلى الطاقة المتجددة مع استكمال ذلك بتطبيق تقنيات كفاءة الطاقة. ورغم أهميتها وتوافقها تماما مع الاقتصاد الدائري، إلا أن هذه الإجراءات يمكنها فقط معالجة 55 في المائة من الانبعاثات، بينما تأتي نسبة 45 في المائة المتبقية من عمليات إنتاج السيارات والملابس والأغذية والمنتجات الأخرى التي نستخدمها كل يوم ولا يمكن التغاضي عنها. ومن شأن تطبيق نظام الاقتصاد الدائري أن يسهم في استكمال صورة وجهود الحد من الانبعاثات من خلال تغيير طريقة صنع المنتجات واستخدامها. وإذا تم التركيز على تطبيق استراتيجيات الاقتصاد الدائري في خمسة مجالات رئيسة فقط هي الأسمنت والألمنيوم والصلب والبلاستيك والغذاء يمكن القضاء على ما يقرب من نصف الانبعاثات المتبقية من إنتاج السلع - 9.3 مليار طن من مكافئ ثاني أكسيد الكربون في 2050، وهو ما يعادل خفض الانبعاثات الحالية من جميع وسائل النقل إلى الصفر. وفي الصناعة يمكن تحقيق هذا التحول من خلال زيادة معدلات استخدام الأصول، مثل المباني والمركبات بشكل كبير، وإعادة تدوير المواد المستخدمة في صنعها، ما يقلل من الطلب على خامات الصلب والألمنيوم والأسمنت والبلاستيك والانبعاثات المرتبطة بإنتاجها. وفي نظام الغذاء يعمل استخدام ممارسات الزراعة المتجددة وتصميم عملية التعامل مع النفايات على طول سلسلة القيمة بأكملها على عزل الكربون في التربة وتجنب الانبعاثات المتعلقة بالأغذية غير المأكولة والمنتجات الثانوية غير المستخدمة.
ويتميز الاقتصاد الدائري بالقدرة على زيادة المرونة في مواجهة الآثار المادية لتغير المناخ. على سبيل المثال عند الاحتفاظ بالمواد قيد الاستخدام يمكن للشركات فصل نشاطها الاقتصادي عن استهلاك المواد الخام المعرضة لمخاطر المناخ، وبالتالي تحقيق قدر أكبر من المرونة. وفي نظام الغذاء تعمل الزراعة المتجددة على تحسين صحة التربة ما يؤدي - على سبيل المثال - إلى تعظيم القدرة على امتصاص المياه والاحتفاظ بها، ما يزيد بدوره من المرونة ضد كل من حالات هطول الأمطار الغزيرة وحالات الجفاف. ويمكن أن يكشف مزيدا من البحث حول حجم وطبيعة الفرص في هذا المجال عن إمكانات أكبر.
إضافة إلى معالجة أسباب وآثار تغير المناخ، يمكن للاقتصاد الدائري أن يساعد على تحقيق أهداف التنمية المستدامة الأخرى التي وضعتها الأمم المتحدة، وعلى رأسها الهدف الـ 12 من أهداف التنمية المستدامة الذي يرمي إلى ضمان وجود أنماط استهلاك وإنتاج مستدامة. لقد ثبت أن إطار الاقتصاد الدائري يمكن أن يحسن جودة الهواء، ويقلل من تلوث المياه، ويحمي التنوع البيولوجي. وتوفر مبادئ الاقتصاد الدائري للشركات مجموعة كبيرة من فرص الابتكار التي تقلل من تكاليف المواد، وتزيد من استخدام الأصول، وتستجيب لمتطلبات العملاء المتغيرة. وتشكل هذه السمات معا حجة مقنعة للتعامل مع الاقتصاد الدائري على أنه ليس فقط خيارا واحدا يجب مراعاته عند السعي لتحقيق أهداف المناخ، لكن كإطار عمل قوي لحلول الوصول إلى مستقبل مزدهر.
ويتطلب تحقيق التحول من الاقتصاد الخطي إلى الاقتصاد الدائري جهودا متضافرة، حيث لا يمكن لأي منظمة أن تقوم بذلك بمفردها. ويمكن للمؤسسات الدولية وضع الاقتصاد الدائري بشكل مباشر على جدول أعمال المناخ، وإعطائه الأهمية الممنوحة للأنشطة المهمة الأخرى للحد من الانبعاثات مثل كفاءة الطاقة وإعادة تشجير الغابات. ويمكن للحكومات والمدن أن تدخل مبادئ الاقتصاد الدائري في استراتيجياتها المناخية، في حين يمكن للشركات توسيع نطاق فرص تطبيق مبادئ الاقتصاد الدائري التي تجد في الوقت نفسه قيمة بطرق جديدة وتستجيب لتغير المناخ، ويمكن للمستثمرين توجيه رأس المال نحو الأعمال التجارية التي تقلل بشكل كبير من مخاطر المناخ.
وبعد تضافر الجهود والتقنيات على هذا النحو تكتمل وتتبلور صورة الاقتصاد المزدهر الخالي من الانبعاثات، وتصبح المهمة الحالية تحويل هذه الصورة إلى حقيقة واقعة.
إنشرها