Author

الجامعات الأوروبية وقضية التعلم مدى الحياة

|
ليس التنافس هو التعبير الوحيد عن العلاقة بين الجامعات، بل إن التعاون تعبير آخر عن هذه العلاقة. فكثيرا ما نسمع عن توأمة الجامعات Twining، واتحادات الجامعات Association، وغير ذلك من مظاهر التعاون المختلفة. وهناك اليوم في أوروبا، اتحاد للجامعات الأوروبية EUA، تم إنشاؤه عام 2001. يضم الاتحاد 800 جامعة، لديها 19 مليون طالب، وموزعة على 48 دولة، ويقع المقر الرئيس للاتحاد في مدينة بروكسل Brussels البلجيكية، عاصمة الاتحاد الأوروبي EU. ويوفر هذا الاتحاد للجامعات الأعضاء منصة للتعاون وتبادل الخبرات بين الجامعات، ويشمل ذلك تكوين رؤى مشتركة للمستقبل، والتخطيط للعمل على تحقيقها. وقد تضمنت موضوعات هذه الرؤى أخيرا مسألة متطلبات التعلم مدى الحياة، انطلاقا من تزايد الحاجة إلى هذا التعلم في العصر الذي نعيش فيه.
أصدر اتحاد الجامعات الأوروبية تقريرا، في شهر أيار (مايو) 2017، طرح فيه ثمانية محاور أساسية للتعلم مدى الحياة. وتشمل هذه المحاور: القدرة على التواصل باللغة الأم، والقدرة على التواصل بلغات أجنبية، والتأهل في أساسيات الرياضيات والعلوم والتقنية، والتأهل الرقمي، والقدرة على التعلم، والتأهل في النشاط الاجتماعي والتعامل المدني، والتأهل في المبادرة وريادة الأعمال، والتأهل في الوعي الثقافي والتفاهم على مستوى العالم. وتجدر الإشارة إلى أن هذه المحاور الثمانية ليست مستقلة عن بعضها بعضا بحدود فاصلة فيما بينها، وإنما تتصف بالتداخل في بعض الأحيان. يضاف إلى ذلك أن التأهل في كل من هذه المحاور كما يبين التقرير يتطلب الاهتمام بالمعارف المرتبطة بالمحور Knowledge، والمهارات المتعلقة به Skills، إضافة إلى المواقف والتوجهات بشأنه Attitude. وسنلقي بعض الضوء فيما يلي على كل من هذه المحاور.
إذا بدأنا بموضوع التواصل، في المحورين الأول والثاني، نجد الحاجة إلى تمكين الإنسان من التواصل بأكثر من لغة. وهذا الأمر مهم للغاية ضمن دول الاتحاد الأوروبي، نظرا لكثرة اللغات فيها، وهو مهم مع اللغة الإنجليزية على مستوى العالم، لأنها باتت اللغة الوسيطة الأولى بين جميع اللغات. يضاف إلى ذلك أن للتواصل بأي لغة أصول، لعل أهمها عاملان رئيسان. العامل الأول هو صحة اللغة في التعبير عما يريده طرف التواصل، ولا شك أن اللغة العربية مظلومة من بعض أبنائها في هذا المجال، خصوصا في التواصل عبر شبكات التواصل الاجتماعي على الإنترنت. أما العامل الثاني فهو لباقة التعبير، واللغة العربية مظلومة مرة أخرى في التواصل عبر هذه الشبكات، حيث الفظاظة تسبق اللباقة في بعض الأحيان. وبالطبع ليس هذا الأمر مقصورا على لغتنا الجميلة، بل هو موجود في اللغات الأخرى أيضا. وهكذا نجد أن الحاجة إلى التواصل في التعلم مدى الحياة قائمة، لكن لا بد في ذلك من الاهتمام بسلامة اللغة، وحسن التعبير.
وننتقل إلى محور التأهل في أساسيات الرياضيات والعلوم والتقنية، ونلاحظ أن هذا المحور يتوافق مع توجه التعليم العام في العالم نحو التركيز على موضوعات العلوم والتقنية والهندسة والرياضيات STEM، نظرا للحاجة إليها في هذا العصر، حيث يسهم التفوق فيها في تفعيل الابتكار العلمي ودعم التنمية. ويؤدي الاهتمام بهذه الموضوعات على مستوى التعلم مدى الحياة ومتابعة مستجداتها بشكل متواصل إلى تنشيط الابتكار والإسهام في التنمية المستدامة.
يركز المحور التالي على موضوع الأهلية الرقمية، أي: التأهيل اللازم للتعامل مع الفضاء السيبراني وتحقيق التحول الرقمي في مختلف نشاطات الحياة. ونظرا للتطور المستمر في التقنية الرقمية، يحتاج التأهيل الرقمي إلى متابعة المستجدات ورصد آثارها دون انقطاع. وقد ورد هذا الموضوع في بوصلة التعلم 2030 Learning التي طرحتها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD عام 2019، في إطار المهارات المادية التطبيقية المطلوبة للإسهام في التنمية المستدامة التي تحدثنا عنها في مقال سابق.
يأتي بعد ذلك محور القدرة على التعلم وتلقي المعرفة والمهارة اللازمة لذلك. ويماثل هذا المحور العمود الأول من أعمدة التعلم الأربعة التي وردت في تقرير جاك ديلور Jacques Delors الصادر عام 1996، عن اللجنة الدولية حول التعليم في القرن الـ 21 التابعة "لليونيسكو" UNESCO، وقد تحدثنا عن هذا التقرير في مقال سابق. يهتم هذا المحور بالتعامل مع مصادر التعلم وبالأساليب المختلفة للتعلم. يضاف إلى ذلك ما جاء في تقرير ديلور من السعي إلى الحصول على معرفة عامة في شؤون الحياة ومعطياتها المتجددة من جهة، وبالتركيز على اكتساب المعرفة العميقة في مجالات محددة مختارة من جهة ثانية.
ونصل هنا إلى المحورين التاليين المتكاملين وهما: محور التأهل في النشاط الاجتماعي والتعامل المدني، ومحور التأهل في المبادرة وريادة الأعمال. ولعلنا نلاحظ في هذين المحورين فكرة الارتقاء بشخصية الإنسان ومهاراته الفردية في التعامل مع الحياة. فالمطلوب هنا تنمية إحساس الإنسان بما حوله، والاستناد إلى المعرفة المكتسبة، والاهتمام الشخصي، والمسؤولية الاجتماعية في التحرك في الحياة وأداء دور إيجابي فيها يخدم المجتمع من جهة، ويحقق ذاته وتطلعاته من جهة أخرى. وقد ورد مثل ذلك في أعمدة التعليم الواردة في تقرير ديلور.
ويأتي المحور الثامن أخيرا ليطرح موضوع الوعي الثقافي والتفاهم على مستوى العالم. وتتجسد أهمية هذا الموضوع، ليس فقط في تعزيز التواصل بين الأوروبيين الذين ينتمون إلى ثقافات تختلف كثيرا أو قليلا فيما بينها، لكن من أجل تمكين التواصل على مستوى العالم، عبر فهم ثقافات الآخرين واحترام تراثهم. وتعود أهمية ذلك إلى توجهات العولمة في عالم تتكامل نشاطاته وتتفاعل عبر الفضاء السيبراني، ما يجعل الجميع بحاجة إلى الجميع في تبادل حميد يحقق الفوائد لهم جميعا.
هذه محاور مهمة للتعلم مدى الحياة تطرحها الجامعات الأوروبية متطلعة إلى دور أكبر في خدمة مجتمعاتها. في هذه المحاور اهتمام بالتواصل، وأساسيات العلوم والتقنية، والتعامل الرقمي، وتفعيل التعلم، وتعزيز النشاط الشخصي، واكتساب الوعي الثقافي. ولا شك أن مضامين هذه المحاور تستحق النقاش في تطلعاتنا نحو التعلم مدى الحياة من أجل حياة أفضل.
إنشرها