مهارات مطلوبة لعلنا نرعاها

تحدثنا في مقال سابق، نشر في آذار (مارس) الماضي، عن بوصلة التعلم 2030 Learning Compass التي تم طرحها عام 2019 في إطار مشروع "مستقبل التعليم والمهارات 2030 Future Education and Skills " الذي ترعاه منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD المعروفة بنادي الدول الغنية. وقد طرحت بوصلة التعلم هذه زادا نافعا يساعد على تحديد التوجه المناسب نحو المستقبل، في هذا العصر الحافل بالمتغيرات، آخذة في الحسبان معطياته المتجددة من جهة، ومتطلباته المتجددة أيضا من جهة أخرى. وقد ورد في جوهر صفات هذه البوصلة أربعة عناصر أساسية مطلوبة للعمل على تحديد مسار حياة الإنسان في هذا العصر. وتشمل هذه العناصر كلا من: المعرفة Knowledge، والمهارات Skills، والقيم Values، إضافة إلى نظرة الإنسان إلى ما حوله ومواقفه وتوجهاته Attitude.
ليست العناصر الأربعة هذه مستقلة عن بعضها، بل إنها متداخلة. فقد يكون في المهارات، على سبيل المثال، أساليب لاكتساب المعرفة، والتفكير في محتوياتها، والاستدلال على المواقف المناسبة، أو غير ذلك. ونظرا لأهمية المهارات في التفاعل مع العناصر الأخرى، سنطرح ما ورد بشأنها في "بوصلة التعلم 2030" سابقة الذكر، ونناقش مضامين ذلك. وسنقوم بهذا الأمر تبعا للأقسام الرئيسة الثلاثة التي صنفت المهارات على أساسها، وتشمل هذه الأقسام: مهارات إدراكية وما بعد الإدراكية Cognitive & Meta-Cognitive، ومهارات اجتماعية وعاطفية Social & Emotional، ومهارات مادية تطبيقية Physical & Practical.
إذا بدأنا بقسم المهارات الإدراكية وما بعد الإدراكية نجد أن المقصود بهذه المهارات يكمن أساسا في التفكير، واستخدام المعرفة في إجراءاته والتعبير عن ذلك بالكلمات، بل بالأرقام أيضا عند الحاجة، وإبراز النتائج التي يتم التوصل إليها. وهناك في هذا المجال توصيفات للتفكير تعبر عن حالات مختلفة. ومن ذلك على سبيل المثال التفكير النقدي Critical Thinking الذي يقوم بتحليل الأمور المطروحة للتفكير إلى عناصرها الأساسية، باحثا في الجوانب الإيجابية والسلبية منها، ليعطي من خلال ذلك تقييما يستهدف تطويرها.
ثم هناك التفكير الإبداعي Creative Thinking الذي يطوف بالتفكير في الأمور المطروحة من مختلف جوانبها، مستعينا أحيانا بخيال إنساني فاعل، وبقدرات على ملاحظة دقائق الأشياء واستقراء آثار شتى الحوادث، مستهدفا الوصول إلى أفكار جديدة تقدم إضافات جديدة إلى المعرفة، ويطلق على هذا التفكير أحيانا لقب التفكير الجانبي Lateral Thinking، كما فعل إدوارد دو بونو Edward de Bono خبير أساليب التفكير الشهير، والسبب في ذلك هو ملاحظة أن الأفكار الجديدة تأتي عندما يطوف التفكير حول القضايا المطروحة من مختلف جوانبها.
وهناك، إضافة إلى ما سبق، التفكير اللازم للتعلم Learning to Learn. ولعل المعنى المقصود هنا يتمثل في ناحيتين: ناحية استيعاب ما يطرح، وناحية التمييز بين الخطأ والصواب، وربما إفعال التفكير النقدي في ذلك. ولا شك أن لهذا الأمر أهمية كبرى بسبب تطور معطيات العصر والحاجة إلى استيعابها، إضافة إلى نقد مضامينها، وبالتالي الحاجة إلى التعلم المستمر أو التعلم مدى الحياة Lifelong Learning: LLL، ولا بد في إطار التفكير أيضا من ذكر ضرورة اعتماد الإنسان عليه في ضبط ذاته Self-Regulation، ففي غياب التفكير السليم عن أي معلومة أو نتيجة أو قرار، يجد الإنسان نفسه وسط حالات لا تحمد عقباها.
بعد المهارات الإدراكية المرتكزة إلى التفكير، ننتقل إلى المهارات الاجتماعية والعاطفية. وتستند هذه المهارات إلى ثلاثة عوامل رئيسة هي: التعاطف مع الآخرين Empathy، والفاعلية الذاتية Self-Efficacy، و"المسؤولية Responsibility، والتعاون Collaboration، إذا أخذنا عامل التعاطف مع الآخرين، فسنجد فيه روحا إنسانية عالية تحفز التواصل والمودة، وتبني بيئة سعيدة بين الناس، تسهل التعاون والعمل المشترك فيما بينهم، لتعود بالفوائد على الجميع. وإذا نظرنا في عامل الفاعلية الذاتية، لوجدنا فيه حوافز ذاتية تدعو الإنسان إلى التميز، والشغف بالتوجه نحو العطاء، والمثابرة في العمل لتحقيق الأهداف.
ونأتي إلى عامل المسؤولية الذي يكمل الفاعلية الذاتية بصفة ذاتية أخرى تحث الإنسان على أداء الأعمال على أفضل وجه ممكن. فعمل الإنسان تمثيل لشخصه ومسؤوليته عنه تعبير عن ذلك. وعندما يؤدي الإنسان عمله بمسؤولية، فإن ذلك يعود بالفائدة على المجتمع الذي يقوم الإنسان بخدمته، وعلى الإنسان ذاته لأنه يثبت فيه جدارته. وننتقل إلى عامل التعاون الذي يرتبط بمبدأ التعاضد Synergy، حيث العمل الذي يقوم به فريق عمل متكامل المهارات، لا يمكن للأفراد ذاتهم تنفيذه، كل على مستواه الفردي. أي: إن هذا العامل مطلوب في كثير من الأعمال المتميزة.
ونصل أخيرا إلى المهارات المادية التطبيقية التي ترتبط بالأعمال اليدوية Manual بما في ذلك الأعمال الفنية والرياضية، ويضاف إلى ذلك استخدام الأجهزة الرقمية والآلات المختلفة، وتدخل في هذا الإطار أيضا الأعمال المنزلية وطهي الطعام، ونشاطات أخرى كثيرة. ويحتاج الإنسان في حياته إلى أداء كثير من هذه الأعمال، انطلاقا من احتياجاته الشخصية، أو إبرازا لمواهبه الذاتية، أو من أجل صحته وتفعيل نشاطاته، أو في سبيل خدمة الآخرين، أو لأسباب أخرى كثيرة.
وهكذا نجد أن المهارات التي أوصت "بوصلة التعلم 2030" بها ليست فقط ذهنية إدراكية تهتم بالتفكير، والاستيعاب، والقدرة على التعلم المستمر، بل إنها تشمل مهارات اجتماعية عاطفية تركز على الجوانب الذاتية، والعلاقة بين الناس، والتعاون فيما بينهم، كما أنها تتضمن مهارات مادية تطبيقية تهتم بمتطلبات الحياة العملية واحتياجاتها الأساسية في هذا العصر.
ولعلنا نلاحظ هنا أن جميع المهارات المطروحة تسعى إلى تفعيل تميز ذكاء الإنسان على الذكاء الاصطناعي الذي يغزو سوق العمل في المهن التقليدية، التي تتطلب عملا روتينيا تؤديه وسائط هذا الذكاء بكفاءة وفاعلية ورشاقة تفوق إمكانات الإنسان بسبب خصائصها الإلكترونية. فالإنسان أكثر انطلاقا في التفكير والإبداع، وما الذكاء الاصطناعي سوى انعكاس لذلك. والإنسان أعمق تحسسا بالنواحي الاجتماعية والعاطفية، واختيار السلوك المناسب في هذا المجال. والإنسان أفضل تلمسا لمتطلبات الحياة العملية ومعطياتها المتجددة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي