جولة في أروقة مستشفى سويدي في زمن الجائحة

ماذا يخطر بالبال أن يكون الواقع في مستشفى، أي مستشفى في العالم، في زمن جائحة يبدو أن لا حول ولا قوة للبشر حتى الآن في احتواء فيروسها؟
في أقل تقدير، يتوقع المرء أن يكون المستشفى وما فيه من الأطباء والطبيبات والممرضين والممرضات والعاملين والعاملات في وضع يشي بأننا في خضم معركة أو صراع مع وباء قاتل مخيف.
وهذا ما توقعته في أول اضطرار لي لزيارة المستشفى الكبير في مدينتنا في زمن الجائحة. كنت أرافق شقيقتي، وهي من ذوي الاحتياجات الخاصة، حيث تعاني ضمورا في الدماغ.
بيد أن الوضع العام كان طبيعيا، يشبه إلى حد كبير الحال الذي كان عليه المستشفى قبل نحو عام ونصف العام عندما ذهبت بشقيقتي للقاء طبيبها.
لا أخفي أنني كنت أتوقع تشديدا ليس في إجراءات الزيارة فحسب، بل بقدر تعلق الأمر بالمستشفى ذاته. صحيح أن الحياة تسير بشكل طبيعي في أغلب المضامير هنا، إلا أن ما كان يجول في خيالي حول المستشفى كان مختلفا.
ولهذا أعددت نفسي لبيمارستان لم تعد أبوابه مشرعة لكل من هب ودب، حيث كان يفضل البعض زيارة المستشفى أحيانا لاحتساء القهوة أو تناول وجبة في المطعم العام بجانب المدخل الرئيس.
وكذلك توقعت أن المستشفى لا بد أنه اتخذ تدابير صارمة بقدر تعلق الأمر بالزيارات ومعاينة المرضى، أو ارتداء الملابس الواقية من كمامات وقفازات إلى آخره من التدابير التي يفرضها أغلب الدول على الناس بصورة عامة حال خروجهم من منازلها، فضلا عن مرافقهم الصحية.
لم ألحظ أي إجراءات تؤشر إلى تغيير في المواقف والتعامل رأت إدارة المستشفى ضرورة فرضها وتطبيقها بسبب الجائحة، عدا إرشادات عامة تدعو الزوار والمرضى إلى الالتزام بالتباعد الاجتماعي.
وهل حقا كان هناك تباعد اجتماعي؟ كلا. لم ألحظ ذلك، ولم يطبق هذا الإجراء حتى الأطباء والممرضون والممرضات.
وأنا جالس في غرفة الانتظار، دخلت كوكبة من الممرضات بمعية مجموعة من طلبة كلية التمريض في جامعتنا - نحو 20 فردا - والضحكة تعلو الوجوه والابتسامة لا تفارق الشفاه والأكتاف تكاد يمس بعضها بعضا.
لم ألحظ طبيبا أو ممرضة أو عاملا يرتدي الكمامة أو القفازات. وعند ولوجنا، ونحن نحو ثمانية أشخاص إلى غرفة الفحص المجهري صغيرة الحجم، حيث الناظور الذي يكشف فيه الطبيب عن الأمعاء الغليظة، تصرف الكل وأنا معهم كأن وباء كورونا لم يصل إلى السويد.
طبيب التخدير ومساعده وممرضتان وممرض وطبيب الاختصاص ومعهم شقيقتي وأنا ممسك بيدها، "تتشبث بي كثيرا عند ذهابنا إلى الطبيب"، كنا نتبادل الحديث حول تفشي الوباء، لكن ليس في السويد، بل في أمريكا وبريطانيا وفرنسا وإيران وغيرها من الدول.
سبعة أشخاص تحلقنا حول السرير الذي تمددت عليه شقيقتي ولا تفصل بيننا غير الأسلاك والأنابيب التي تتدلى من السقف والأجهزة الطبية فائقة التطور وكنا من القرب من بعضنا إلى درجة تحسس أنفاس الواحد الآخر.
قلت لطبيب التخدير الذي كرر أكثر من مرة أنه أسعد إنسان في الدنيا لأنه يحب عمله كثيرا إن كان في إمكانه تأليف كتاب تحت عنوان: "الجائحة تجلب السعادة إلى مستشفى في السويد". لم يتلقف التهكم فيما قلته، وأردف: "السعادة هي الحياة وبدونها ننتهي كبشر".
رقدت شقيقتي بتأثير المخدر وطلب مني طبيب الاختصاص مغادرة الغرفة لأنني قد لا أتحمل ما سيقومون به.
بعد نحو 45 دقيقة أخرجوا شقيقتي من الغرفة والتأم الحشد حولها مرة أخرى وكان طبيب الاختصاص يدفع سريرها ويبحث عني.
وعندما وقعت عيناه علي أسرع صوبي وقال: "كلنا نحب شقيقتك. اعتن بها رجاء. أخذنا عينات للفحص المختبري وسنعلمك النتيجة".
وبعد انتظار لم يستغرق طويلا استفاقت شقيقتي، زارنا الطبيب للمرة الأخير وقال لي: "بإمكانك أن تأخذ أختك إلى البيت الآن".
عدت إلى المنزل وشرعت في إكمال ما فاتني من قراءة الصباح حيث أمضيت أكثر من ثلاث ساعات في المستشفى.
قرأت في الصحافة السويدية أن عالما بارزا في الرياضيات وصاحب نظريات حسابية حول تفشي الأوبئة وانحسارها نشر دراسة جديدة تبرهن حسب معطياته أن السويد كان في إمكانها إنقاذ أربعة آلاف ضحية لو طبقت إجراءات الغلق القسرية التي فرضتها الدول المجاورة لها مثل الدنمارك والنرويج حيث لم تتجاوز الوفيات في الأولى 686 و278 في الثانية، وصل عدد الوفيات في السويد حتى يوم كتابة هذا المقال وهو الثلاثاء الماضي 5,918 شخصا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي