Author

ثقافة الجودة بين المؤسسة والعاملين

|
ماذا نريد عندما نقول: إننا نتطلع إلى جعل ثقافة المؤسسة ثقافة جودة؟ لعلنا في الإجابة عن هذا التساؤل ننظر إلى الأمر من خلال محورين متكاملين: محور يختص بمستوى أداء المؤسسة، ثم محور آخر يهتم بالتطوير المستمر للمؤسسة وتفعيل التجدد والابتكار فيها. في محور مستوى الأداء هناك معايير مختلفة على رأسها: الفاعلية بمعنى تنفيذ المتطلبات بالشكل المأمول، والكفاءة بمعنى الحد من الهدر، والرشاقة بمعنى الاستجابة السريعة للمتغيرات. أما في محور التطور فلعلنا نلجأ في التعبير عنه إلى ماساكي إيماي Masaaki Imai الخبير الياباني صاحب مبدأ كايزن Kaizen الذي يدعو إلى التطوير المستمر. يقول هذا الخبير: إن هذا المبدأ يتضمن العمل على تحقيق تطوير يومي للمؤسسة، يرافقه تطوير لجميع العاملين فيها، على أن يحيط هذا التطوير بجميع أماكن عملها ويشمل جميع نشاطاتها. وعلى أساس هذين المحورين، فإن جعل ثقافة المؤسسة ثقافة جودة يعني جعلها تتمتع بأداء متميز وسعي مستمر إلى تطوير شامل مقرون بتجدد لا يتوقف.
لكن من المسؤول عن بناء ثقافة الجودة في المؤسسة؟ هناك إجابتان جاهزتان عن هذا التساؤل، وضعهما قبل عقود، وليم إدواردز ديمنج William Edwards Deming الملقب بأبي إدارة الجودة. تقول الإجابة الأولى: إن مسؤولية الجودة تقع على عاتق كل فرد من العاملين في المؤسسة. وتقول الإجابة الثانية يتم صنع الجودة من قبل مجلس إدارة المؤسسة، فالفرد العامل في المؤسسة لا يستطيع الإسهام بتقديم الجودة المنشودة إلا في الإطار الذي يتيحه نظام المؤسسة. ولعل المقصود هو أن المسؤولية الأولى عن ثقافة الجودة في المؤسسة تقع على عاتق أفراد الإدارة العليا، وأن مسؤولية الأفراد الآخرين تأتي في المركز الثاني، لأنها مقيدة بالأنظمة والضوابط الصادرة عن أصحاب الإدارة العليا. وهنا تبرز حاجة الإدارات العليا إلى التخطيط واستشراف الأنظمة الأفضل للمستقبل، من أجل تمكين بناء ثقافة الجودة فيها. وبالطبع يبقى الإنسان الفرد، سواء في الإدارة العليا أو العمل التنفيذي للمؤسسة هو المسؤول عن ثقافة الجودة وتميز الأداء الذي تعطيه، ومسار التطوير والتجدد والابتكار الذي يؤدي إلى تمكينه، ومن هذا المنطلق تأتي جودة الإنسان الفرد كأساس مطلوب لجودة المؤسسة. ولا شك أن صفة الأمانة هي الصفة المحورية لجودة الإنسان. وهناك، في التعبير عن ذلك بأساليب مختلفة، أقوال مأثورة لبعض رواد الأعمال المعروفين، تستحق أن نقف عندها، لأنها تصدر عن خبرات مشهودة في عالم المؤسسات. في هذا المجال، يقول المستثمر الشهير وارين بافيت Warren Buffet ما يلي: "عندما أريد توظيف إنسان عندي أنظر إلى ثلاث خصائص فيه: أمانته، وذكائه، ونشاطه. فإن كان فاقدا للصفة الأولى، فإن الصفتين الأخيرتين بدونها تسببان خراب العمل". أي: إن الصفات الحسنة دون أمانة تفقد اتجاهها الإيجابي نحو العمل لتتحول إلى وبال عليه.
ويقول هنري فورد Henry Ford مؤسس شركة فورد قبل أكثر من قرن من الزمن: "الجودة هي أن تؤدي العمل بإتقان حتى وإن لم يكن هناك من يراقب عملك"، وهذا الأداء المنشود بالطبع متطلب من متطلبات الأمانة التي يجب أن يتحلى بها الجميع. وينصح ستيف جوبز Steve Jobs مؤسس شركة أبل Apple، الذي يحمل أصولا عربية، العاملين معه بقوله: "عليكم أن ترفعوا راية الجودة، وأن ينصب اهتمامكم على التميز"، والجوهر المشترك المطلوب من الجميع في رفع هذه الراية هو الأمانة في أداء العمل بإتقان دون الحاجة إلى ضوابط المراقبة.
وهناك عوامل مهمة ترتبط ببناء الجودة في الإنسان، وسنطرح في هذا المجال أولا ما قاله أرسطو Aristotle عالم العصور القديمة الإغريقي الشهير، حيث ذكر أن الجودة عادة. وهذا يعني أن بالإمكان تربية الإنسان في بيئة أسرية ومدرسية ومجتمعية تبني سلوك الجودة فيه أمانة وأداء وتطورا مستمرا. ويؤكد أورين ودورد Orrin Woodward الكاتب المعروف في مجال الأعمال ذلك بقوله: "تعكس الجودة في الأداء شخصية الإنسان، وتتشكل شخصية الإنسان بالطبع في بيئة نشأته الأولى، والتعليم الذي يتلقاه"، وهكذا تبرز في هذا القول أيضا أهمية الأسرة والمدرسة والمجتمع في تحقيق الجودة المنشودة.
ونأتي إلى عوامل تحفيز الجودة، ونعود في هذا المجال إلى أرسطو مرة أخرى، فقد قال: "إن المتعة في العمل تؤدي إلى الجودة في الأداء"، ولا شك أن حافز المتعة يأتي من الشغف بالعمل الذي يجري تنفيذه. وعلى ذلك فإن في اختيار الشخص المناسب للعمل المناسب الذي يهواه طريقا ورديا نحو الجودة. وهناك عامل آخر مهم لتحفيز الجودة ذكره رجل الأعمال ريتشارد برانسون Richard Branson، حيث قال: "إن توجيه اهتمام الإدارة العليا إلى العاملين أولا، يؤدي تلقائيا إلى رضا العملاء"، والمقصود أن الاهتمام بالعاملين يؤدي إلى تحسين أدائهم وتطوير جودة ما يقدمونه، حيث يقود ذلك إلى رضا العملاء، وهؤلاء هم المستهدفون بالعمل والمستفيدون من معطياته، والدافعون لتكاليفه.
وفي بيان معطيات جودة العاملين، لعلنا نذكر قولا لجاك ولش Jack Welch، مدير شركة جنرال إليكتريك GE السابق، بهذا الشأن، حيث قال: "عندما تحصل على العاملين المناسبين، وتترك لهم المجال لبسط أجنحتهم، وتحفزهم على العمل، عندئذ لن تحتاج إلى أي جهد في إدارتهم، أي لن تحتاج إلى تلك الضوابط الإدارية التي تعيق مستوى الأداء".
تحتاج المؤسسات في شتى القطاعات ومختلف المجالات إلى ثقافة الجودة وما تقدمه من أداء متميز، وتطور وتجدد وابتكار متواصل. هذا ما تقضي به توجهات المستقبل، حيث يتنافس العالم على التميز في أي شيء وكل شيء. وقد بينا هنا أن جوهر الجودة يكمن في جودة الإنسان، في أمانته وإمكاناته، وأوضحنا أيضا أن هناك دورا للنشأة والتعليم في بناء عادات الجودة في الإنسان، ودورا آخر لبيئة العمل وتحفيز القدرات. وإذا كانت جودة الإنسان هي جوهر جودة المؤسسات، فإن جودة المؤسسات هي جوهر جودة المجتمع المحيط بها.
إنشرها