Author

تأثير الجوار في مستقبل الأطفال

|
تؤثر مرحلة الطفولة بشكل كبير في حياة الإنسان ويتشكل جزء كبير من شخصيته فيها. يقوم الوالدان بالدور الأبرز في حياة الأطفال، لكن هناك عوامل مهمة أخرى مهمة تؤثر في مستقبل الأطفال. ويلعب مكان الإقامة في مرحلتي الطفولة والمراهقة دورا مهما في نجاح الناس وتقدمهم في الحياة. ووجدت دراسة لجامعة هارفارد أجرتها في الولايات المتحدة علاقة قوية للأحياء والجوار مع الدخول المستقبلية للأطفال والمراهقين. واستفادت الدراسة من بيانات إدارتي الضرائب والإحصاء السكاني للتعرف على عدة خصائص مستقبلية للأطفال والمراهقين، أبرزها الدخل ومعدلات البطالة ومخاطر دخول السجون على مدى عقدين من الزمان.
تطرقت الدراسة إلى بيانات واسعة جغرافيا في الولايات المتحدة، وجاءت النتائج خلال الأعوام الطويلة مرجحة فرضية وجود تأثير قوي لمكان معيشة الطفولة في فرص النجاح عند الرشد. ووجدت الدراسة بالفعل أن الحي، حتى الجوار القريب الذي يقيم فيه صغار السن، له تأثير قوي في مستقبلهم، وأن تأثيره في دخولهم المستقبلية أقوى من تأثير المكان الذي يقيمون فيه مستقبلا. إضافة إلى ذلك، يتأثر الأطفال الأقل سنا بدرجة أقل من تأثر الأطفال الأكبر سنا بالمكان، ويرجع هذا إلى أن الأعوام الأولى أقل حراجة بالنسبة للأطفال صغار السن، حيث يمضون وقتا أقل خارج المنازل من الأطفال الأكبر سنا.
تباين النتائج المستقبلية لحياة الأطفال ليس محدودا يمكن التغاضي عنه، لكنه كبير لدرجة يصعب أحيانا تقبله. فالأطفال الذين نشأوا في جوار أو مخطط أو حي معين في إحدى المدن لا يبعد إلا مسافات قصيرة عن جوار آخر حققوا نجاحات كبيرة مقارنة بأطفال الجوار الأقل حظا. وكان معدل دخل المحظوظين في الأحياء الأغنى أكثر بكثير من دخول الأقل حظا بعد عقدين أو أكثر من الزمن. وقد تتجاوز الفروقات بين المحظوطين في بعض الحالات أكثر من ثلاثة أضعاف دخول الأقل حظا مع مرور الزمن. ولم يقتصر الأمر على تحقيق دخول أعلى، بل ارتفعت معدلات توظيف الذين عاشوا في الجوارات الأغنى بنسب قد تتجاوز عشر نقاط مئوية مقارنة بالآخرين، كما تراجعت نسبة من تعرضوا للسجن إلى نحو ثلث الأطفال الأقل حظا.
يؤثر مكان ومعيشة وبيئة الأعوام الأولى من حياة الإنسان بشكل كبير في تركيبة الأفراد النفسية والاجتماعية وتصرفاتهم المالية المستقبلية. وتسهم عوامل كثيرة في تحديد فرص نجاح الأشخاص، ولكن المكان يسهم بنسبة كبيرة حيث تتحدد فيه مستويات التلوث، والضوضاء، والزحام، والجريمة، والالتزام بالنظام، والجدية في الحياة، والأهم من ذلك العلاقات الاجتماعية كنوع الأقران وتصرفاتهم وتنافسيتهم. كما أن الجوار يحدد إلى حد كبير نوع السكن الذي يؤثر في حياة الطفل بشكل خاص، حيث تتفاوت نوعية المساكن حسب المخططات العمرانية. يحدد الجوار أيضا الخدمات العامة والاجتماعية، كنوع المدارس والتنافس فيها والحدائق والرعاية الصحية. وقد تتقارب في المخططات السكنية أيضا مستويات الدخول ودرجات الاستقرار العائلي.
لم تقتصر تباينات فرص النجاح بين الأطفال قاطني الأحياء والجوارات السكانية الغنية والفقيرة، بل حتى بين قاطني الأحياء منخفضة الدخل. وقد وجد أن انتقال العائلات من أحياء شديدة الفقر إلى أحياء أقل فقرا قريبة منها رفع الدخول المستقبلية للأطفال. ويرجع علماء الاجتماع هذا إلى العوامل الاجتماعية، حيث يحدد الحي أو الجوار السكني مستويات التعرض للجريمة والعنف والمخدرات والممارسات والعادات الضارة بشكل عام التي ترفع مخاطر العاهات والأمراض النفسية والعقلية. كما يؤثر الجوار ونوعية الأقران في ميول الأطفال المستقبلية في مهارات وعادات العمل ونوعيته والتحصيل العلمي والاستثمار والعادات الإيجابية والسلبية. إضافة إلى ذلك، يتشكل كثير من الصداقات والصلات والعلاقات الاجتماعية في أثناء مراحل الطفولة والمراهقة، وتسهم هذه الروابط في تشكيل رأس المال الاجتماعي المستقبلي للأشخاص. من جهة أخرى، يقدم الجوار الجيد مستويات دعم مختلفة للسكان، فهناك جوارات يتضامن فيها السكان مع بعضهم بعضا أوقات الحاجة والضرورة، ما يوفر ضمانات ومظلات حماية للعائلات وأفرادها من بعض المخاطر.
الدراسة أجريت في الولايات المتحدة التي لها بعض الخصوصيات، وقد تختلف المجتمعات في درجات تأثير مكان الإقامة عند الصغر، ولكن يعتقد أنه شبه مؤكد في أرجاء العالم. طبعا تأثير مكان إقامة أول العمر تأثير عام وليس فرديا، فهناك عديد من الناس الذين أمضوا بداية أعمارهم في أحياء فقيرة وعانوا العوز والفاقة، ومع هذا حققوا نجاحات باهرة عندما تقدموا في السن. من ناحية أخرى، يفسر تأثير مكان الإقامة أول العمر جزئيا دائرة الفقر التي يعيشها كثير من البشر المقيمين في مناطق وأحياء معينة لأجيال متعاقبة، حيث يبدو أن الأجيال تتوارث أوضاعها الاقتصادية.
القضاء على الفقر وتحقيق عدالة أكبر في الدخل أمر مطلوب ومرغوب. ويلعب مكان الترعرع دورا بارزا فيه، ولكن لا يمكن نقل الفقراء إلى أحياء غنية لكي نقضي على الفقر، حيث لا تستطيع الدول ولا الفقراء الانتقال بصورة جماعية إلى أحياء راقية، كما قد يرحل الأغنياء لو كثر عدد الفقراء في الحي أو الجوار. ولكن يمكن التعامل والتركيز على بعض الخصائص السيئة للأحياء الفقيرة وقليلة الدخل، والحد من توسعها. كما ينبغي تجنب سياسات تكديس الفقراء ومنخفضي الدخل في أحياء معينة، وخصوصا مشاريع الإسكان التي قد تركزهم في مناطق تعيد إنتاج الفقر مرة أخرى.
إنشرها