خطورة اتباع «الفيدرالي الأمريكي» «2 من 2»
أكد جيروم باول، رئيس "الفيدرالي الأمريكي" في خطابه في منتدى جاكسون هول أخيرا في ظل تواصل التوسع الاقتصادي طويل الأمد الذي شهدته أمريكا قبل الوباء "ويمكنني هنا إضافة استمرار السياسية التوسعية لمجلس الاحتياطي الفيدرالي أيضا"، أنه "بدأ نطاق تقاسم المكاسب في الاتساع ليشمل شرائح أعرض من المجتمع، حيث هبطت معدلات البطالة بين السود وذوي الأصول الإسبانية إلى مستويات دنيا قياسية، وتقلصت الفوارق بين تلك المعدلات ومعدلات البطالة بين البيض إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق".
لكن تدخل باول في الجدال حول أن عدم المساواة سيأتي في النهاية بنتائج عكسية. فما أن يبدأ "الفيدرالي الأمريكي" في تضييق وتشديد سياسته النقدية، سيتعرض لضغط سياسي رهيب حتى لا يضر الفئات الأفقر من المجتمع.
أخيرا، تخلو الاستراتيجية الجديدة للمجلس من أي إجابات عن تحدي بناء نموذج لاستهداف التضخم يدمج مخاطر النظام المالي بكل قواها المحركة المتغيرة باستمرار، وعدم استقامتها، وتعقيدها، إذ لا يوجد مثل هذا النموذج حاليا. ومع أنني غير مهووس بنهج البنك المركزي الأوروبي القائم على ركنين منظورين في تحليل المخاطر المحيطة باستقرار الأسعار بأسلوب شامل، فإنه يمثل على الأقل محاولة لمعالجة المشكلة. وبهذا يواصل "الفيدرالي الأمريكي" تجاهله الخطير لعنصري المال والائتمان، ومن الغريب أنه لم يدرج هاتين الكلمتين من الأساس في بيان استراتيجيته المحدثة، وإن لم يكن ذلك مفاجئا.
على أقل تقدير، ينبغي للبنوك المركزية الأخرى أن تمتنع عن اتباع الاستراتيجية الجديدة لـ"الفيدرالي الأمريكي" دون نظر أو تدقيق. لكن أكبر مخاوفي تتعلق بالأهمية الكبرى التي يوليها "الفيدرالي الأمريكي" لمسألة توزيع الدخل. لتوضيح هذا الأمر أقول: إن التفاوت الاقتصادي ومعه التهديدات المحدقة بالبيئة، يمثل قضية سياسية عالمية كبرى، وقرارات السياسة النقدية في جوهرها تخلف تأثيرات توزيعية. لكن الاعتراف بتلك الحقيقة وتطبيق سياسة نقدية تنأى عن الإجراءات التي تؤثر مباشرة في مسألة التوزيع، أمر مختلف للغاية عن جعل العدالة التوزيعية هدفا للسياسة النقدية.
لذا تثير الاستراتيجية الجديدة لـ"الاحتياطي الفيدرالي" تساؤلات عدة، منها: هل تستطيع السياسة النقدية تحقيق أهداف توزيعية؟ وهل يمكن أن تصطدم تلك الأهداف مع تفويض استقرار الأسعار؟ وكيف ينبغي حل الخلافات والتضاربات بين هدف يتبناه المجلس ذاتيا وتفويض قانوني؟ وهل يحق لأي بنك مركزي أن يتولى المسؤولية عن سياسة توزيعية في بلد ديمقراطي؟.
إن مسؤولي البنوك المركزية ليسوا خارقي القوى، ولا ينبغي أن يتحدثوا أو يتصرفوا وكأنهم هكذا. يجب أن تبقى قرارات التوزيع في أيدي الحكومات والمجالس التشريعية المسؤولة مباشرة أمام الناخبين. كما أن جنوح واضعي السياسات النقدية للعب دور سياسي متزايد سيؤدي إلى مزيد من تقويض، بل تدمير في نهاية الأمر، حجج الدفاع عن استقلالية البنوك المركزية. ويبقى أن نرى ماذا تستطيع البنوك المركزية أن تفعل، وما ستحققه بالفعل، عندما تصبح معرضة للسياسة بكل أوجهها.
لقد وضع "الفيدرالي الأمريكي" البنوك المركزية الأخرى تحت ضغط سياسي ومعنوي ضخم كي تحذو حذوه، عندما اضطلع بمسؤولية معالجة التفاوت الاقتصادي. لكن من الحكمة مقاومة تلك الضغوط.
خاص بـ "الاقتصادية"
بروجيكت سنديكيت، 2020.