Author

عدالة الدخل والعجز الخارجي

|
تزامن تراجع عدالة توزيع الدخل مع تدهور الموازين الخارجية لعدد من الدول المتقدمة منذ بداية ثمانينيات القرن الـ20. وتأتي في مقدمة هذه الدول الولايات المتحدة وبريطانيا وإيطاليا. من جانب آخر، شهدت الموازين الخارجية لعدد من أعضاء منظمة التعاون والتنمية - التي استقرت بها حصص الفئات السكانية الأعلى دخلا - فوائض أو استقرارا في الحسابات الجارية، وكان على رأس هذه الدول اليابان وألمانيا وفرنسا. وتطرقت إحدى دراسات صندوق النقد الدولي - منذ عدة أعوام - إلى العلاقة بين عدالة توزيع الدخل والموازين الخارجية، وخرجت باستنتاجات مدعومة ببيانات وتحليلات نظرية تؤيد العلاقة بين تدهور عدالة توزيع الدخل وازدياد الاختلالات في الموازين الخارجية لدول العالم، وخصوصا الحسابات الجارية للدول المتقدمة.
وجدت الدراسة أن هناك علاقة سلبية بين تغيرات حصة الشرائح السكانية الغنية من الناتج المحلي الإجمالي وتغيرات الحسابات الجارية للدول المتقدمة منسوبة للناتج المحلي (أي إن ارتفاع نصيب الأثرياء صاحبه تدهور الحسابات الجارية). وكان تأثير تدهور عدالة الدخول قويا في بعض الدول حتى إنه فسر بشكل شبه كامل عجز الحساب الجاري في المملكة المتحدة بين سبعينيات القرن الماضي و2007.
ينقسم المجتمع في أي دولة فعليا إلى جزأين أحدهما غني يمثل نسبة منخفضة من السكان، لكنه يملك حصة كبيرة من ثروات البلاد، ويتحكم بشكل كبير في وسائل الإنتاج، ويحصل على نسبة من الدخول تفوق كثيرا نسبتهم السكانية، بينما الجزء الآخر هم العاملون الذين يمثلون الأغلبية الساحقة من السكان. يتنافس الأغنياء وباقي السكان على الدخول في الاقتصاد، فارتفاع حصة الأغنياء من الناتج يخفض حصة أغلبية السكان. تراجع عدالة توزيع الدخل في أي اقتصاد تعني زيادة حصة الأغنياء من الدخول ورفع فوائضهم المالية التي يودعونها، أو على الأصح، يستثمرونها في النظام المصرفي أو في أوراق مالية. عند تراجع نصيب العاملين من الدخل يحاولون الحفاظ على مستويات استهلاكهم التاريخية فيلجأون إلى الاقتراض من المصارف.
تتمتع الدول المتقدمة بأنظمة مالية كفؤة توفر السيولة، ما يسمح للشرائح السكانية العاملة بالاقتراض للحفاظ على مستويات معيشة مستقرة. تحرر الدول الأسواق المالية لتوفير الموارد المالية للتعامل مع ازدياد الطلب على التمويل، ما يزيد تدفق الفوائض المالية الأجنبية إلى البلاد، كما يقوم الأغنياء والنظام المصرفي بعمليات الوساطة لجذب الأموال الأجنبية وإقراضها للشرائح السكانية متوسطة ومنخفضة الدخل. تقود زيادة الائتمان إلى تحفيز الطلب الكلي في الاقتصاد بمعدلات تفوق نمو العرض الكلي، وهو ما يضخم فجوات الموارد الخارجية للدول، ويرفع مستويات التدهور في الحسابات الجارية، ويطيل فترة العجز.
تلجأ الدول إلى التحرير المالي لتلبية الطلب المتزايد على الائتمان وتمكين الشرائح السكانية العاملة التي تمثل الأغلبية الساحقة للسكان من الحفاظ على مستويات استهلاكها، لكن هذا الحل قصير الأجل ومؤقت، حيث يقود إلى تفاقم كبير في عجز الحسابات الجارية، ويرفع ديون الأسر وتكاليف خدمة الديون، الأمر الذي يخفض الاستهلاك على الأمد الطويل. قد يتفاقم الوضع أكثر عندما يلجأ الأغنياء أيضا إلى اقتراض الإيداعات الأجنبية واستثمارها في الأصول المالية بدلا من الأصول الحقيقية ما يرفع عجز الحسابات الجارية إلى مستويات غير مسبوقة.
شهدت معظم الدول الصاعدة تدهورا مماثلا في عدالة توزيع الدخل، لكن عديدا منها تمكن من تحقيق فوائض كبيرة في الحسابات الجارية. ويرجع هذا إلى انخفاض كفاءة الأنظمة والقطاعات المالية والمصرفية في تدوير فوائض الأغنياء إلى الشرائح السكانية العاملة. وتعاني الدول النامية تحيزا كبيرا للقطاعات المالية والمصرفية لمصلحة الأغنياء الذين يفضلون الاستثمار في الأصول الأجنبية أكثر من نظرائهم في الدول المتقدمة، وذلك لأسباب متعددة أبرزها التحوط من مخاطر الدول الاقتصادية وأسعار العملات المحلية ونسب التضخم المرتفعة. وهذا يقود إلى تراجع نمو الاستهلاك والاستثمار المحليين في الدول الصاعدة، ما يرفع الفوائض المالية في الحسابات الجارية لعدد منها. تسعى الدول الصاعدة إلى زيادة كفاءة الأنظمة والمؤسسات المصرفية والمالية لتمكين العاملين من الحفاظ على مستويات استهلاك معينة، لكن هذا يؤدي إلى زيادة ديون الشرائح السكانية العاملة (الفقيرة والمتوسطة وهم أغلبية السكان) وزيادة أصول الشرائح الغنية. ستساعد هذه السياسات على خفض الاختلالات المالية بين الدول، لكنها ستعمق معضلة الديون داخل الدول.
تصرفات الأسر الناتجة عن تراجع عدالة توزيع الدخل تفسر جزءا كبيرا من اختلالات الموازين الخارجية، لكنها ليست الوحيدة المسؤولة عن ذلك، فهناك دور كبير للعجز المالي الحكومي في تفاقمها. ويقود العجز المالي الحكومي المزمن إلى ازدياد منافسة الحكومة على الائتمان المحلي والتسبب في شح الائتمان عند مستويات معينة، فيضطر القطاعان الخاص والعام إلى اللجوء إلى الاقتراض الخارجي، الذي يزيد انكشاف البلاد على المخاطر الخارجية. كما تلعب معدلات الفائدة المنخفضة أو تكاليف الائتمان المنخفض دورا في تشجيع الاقتراض سواء من المصادر المحلية أو المصادر الأجنبية وبالتالي زيادة الطلب الكلي.
إنشرها