Author

تنتظرنا أيام عصيبة .. فما العمل؟

|
أستاذ جامعي ـ السويد
كائن دقيق، تخفق حتى المجاهر العادية في رؤيته. اسمه فيروس كورونا، ماذا فعل بنا، يا ترى؟ بعد مضي حول تقريبا، ونحن رهائن لدى هذا الكائن المتناهي في الصغر. وكأنه يفقه معدن ماهيتنا البشرية، لأن تراه يضرب الأمم والشعوب التي تتصور أنها قهرت الطبيعة وطوعتها لأغراضها الخاصة. ويبدو أن هذا الفيروس المخيف يختار أحيانا ضحاياه بعناية فائقة، فلا يفرق بين ضحاياه الذين يصيبهم فيضرب دون فرز أو تحديد. أقرب شيء إلى نفسي هو أن أحب للآخر ما أحبه لنفسي وأكره له ما أكرهه لنفسي.
لكن لغرض البرهنة على أننا أمام أيام عصيبة، لنعد بذاكرتنا إلى الوراء ونفكر مليا في موقف بعض الزعماء الغربيين وهم يتباهون بمنعتهم ومنعة شعبهم، ويستهزئون بالفيروس ويعيبون على الصين ما حل بها، حيث أطل الفيروس برأسه أولا.
لن أنسى ما تعرضت له طالبتان صينيتان للدراسات العليا في جامعتنا حيث كنت مشرفا عليهما من حملة كره وشماتة وتنمر. هذا حدث في السويد الدولة التي ترى في نفسها وشعبها من البعد الإنساني ما لا تراه في غيرها.
وتحولت جلسات الإشراف إلى جلسات معالجة نفسية. كنت أمضي أكثر الوقت في شد عزم الطالبتين على مواجهة العزل الاجتماعي الذي تعرضتا له، حيث كانت الناس تنبذ حتى التقرب منهما.
واليوم تخشى الطالبتان من القدوم إلى السويد، وتفضلان البقاء في الصين والإشراف عن بعد لأن الوباء متفش في الأولى، ومسيطر عليه في الثانية.
كانت الشماتة صفة ملازمة لظهور الفيروس، حيث في البداية تصور كثيرون وعلى رأسهم الصحافة والإعلام في الدول الغربية أن ظهور الوباء في دول ومجتمعات محددة مرده ماهية هذه الدول والمجتمعات من حيث نظم الحكم والتركيبة الاجتماعية والثقافية والتربوية.
ولم يكن خطاب الشماتة محصورا في منطقة محددة دون أخرى، بل كان ظاهرة غير حسنة لكنها كانت تبدو محببة لدى الذين كانوا يظنون أن الشجرة التي يقفون عليها من الارتفاع إلى درجة لن يكون بمقدور الفيروس تسلقها والوصول إليهم.
في الحقيقة، كان هناك من الخطاب في الإعلام ما تقشعر له الأبدان، ولدي أمثلة كثيرة حيث هبط بعض الكتابات إلى التشفي من الدول والمجتمعات التي كانت في مقدمة ضحاياه والازدراء والاستهزاء بما يحمله هؤلاء من ميل وتوجه، ثقافيا كان أم دينيا أم عرقيا.
وفي بعض الدول وصل التجبر والتكبر بالوباء إلى المبارزة التي كانت تسبق الحرب يوم كان فيه سلاح الإنسان لا يتعدى السكين والرمح والسيف، حيث ينزل المبارز ساحة المعركة وخطابه ولغة جسده كلها استخفاف بغريمه.
ويحضرني هنا مشهد بعض من زعماء العالم الذين أصابهم الفيروس أقول: ربما أن هؤلاء الزعماء استفادوا وتعلموا من تجربة المرض درسا ما أحوجنا إليه في عالمنا المليء بالمشكلات والأزمات، العالم الذي أخذت فسحة الأمل والمستقبل فيه بالانحسار.
حيث وقع حكامها ضحية الفيروس بعد أن استهانوا بهم ومن ثم تحقير الفيروس وقدرته على الوصول إليهم. كان الناس في الماضي إذا أصابتهم مصيبة تواضعوا وبعدها تآزروا، في زمننا هذا تزيدنا المصائب تفرقا ونبذا للآخر الذي كان حليفنا الوثيق بالأمس.
الدول الإسكندنافية في شمال أوروبا كانت قبل الجائحة بمنزلة قطر واحد، حيث ينتقل المواطنون بينها كأنهم ينتقلون بين مدينة وأخرى في دولهم. ما إن وصلها الفيروس حتى قل التعاون بينها وصارت كل دولة تعمل بمعزل عن الأخرى لحماية نفسها ليس من الفيروس وحسب بل من المصيبة التي ترى أن الآخر هو مسببها أو العامل على استفحالها.
وقرأنا كيف أن الدول الغربية صارت تتنافس فيما بينها للاستحواذ على تجارة المواد الطبية الخاصة بالحماية من الفيروس التي ظهر أن موردها الرئيس هو الصين وليس أمريكا.
ووصل الاقتتال على هذه المواد درجة أن دولة أرسلت وفودا تجارية ومعها تفويض لدفع أي مبالغ من المال لإقناع الموردين بتوجيه بضاعتهم صوبها على حساب دول حليفة لها.
وشاهدنا في بداية الأزمة كيف أن الطاقم الطبي في بعض المستشفيات كان يرتدي البلاستيك المستخدم في أكياس القمامة لفقدان بدلات الوقاية، سيكون المستقبل قاتما وعصيبا لو عدنا إلى سابق عهدنا قبل الجائحة ونحن لم نغير طريقة حياتنا التي كاد الفيروس يقتلعها من جذورها.
إنشرها