Author

عدالة توزيع الدخل تدعم النمو

|
تراجعت عدالة توزيع الدخل في الأعوام الأخيرة في عدد كبير من دول العالم المتقدمة والصاعدة والنامية، وإن شهدت الدول الصاعدة والنامية نتائج مختلطة. وأثار هذا التراجع قلق واهتمام كثير من الباحثين وصناع القرار ورجال الفكر ومراكز البحث والمؤسسات الدولية والخيرية. ويعود التراجع إلى عوامل متعددة، كارتفاع مشاركة العمالة منخفضة المهارة، والعولمة، وتحرير عوامل الإنتاج، والتغيرات التقنية، والتراجع في سياسات الدعم وشبكات الحماية الاجتماعية، وخفض الضرائب على الدخول المرتفعة من الأجور والعوائد الرأسمالية، وطبيعة الأنظمة الاقتصادية، وتحيز تطبيق الأنظمة المالية وبعض السياسات الفعلية لأصحاب الدخول المرتفعة، والمكاسب المتزايدة لكبار الموظفين وأصحاب المهارات من التطور التقني، والتحولات الاقتصادية.
تعاني شرائح سكانية معينة في مجتمعات كثيرة درجات تهميش وتفرقة وتمييز مجتمعي متفاوتة، أو في بعض الأحيان تفعيلا قانونيا أو إجرائيا متحيزا لسياسات وأنظمة معينة. ويأخذ تغيير السياسات والممارسات الاجتماعية المتسببة في انخفاض عدالة توزيع الدخول وقتا وجهدا طويلا على مستويات المؤسسات والمجتمعات. ولا تقتصر أهمية وقضية عدالة توزيع الدخل على كونها قضية أخلاقية ومنطقية يجب على المجتمعات تبنيها، بل إنها قضية سياسية واجتماعية واقتصادية مهمة لمنع تركز النفوذ والتأثير في أياد قليلة. ويقود تركز النفوذ إلى تحيز السياسات نحو منافع مراكز القوى، وتبني سياسات غير معظمة للنمو، كالحمائية أو تخصيص الموارد في قطاعات أقل جدوى اقتصاديا، كما قد يعيق أو يقلل من جهود مكافحة الفقر وشبكات الحماية الاجتماعية، وعدالة توزيع الخدمات العامة، كالتعليم والرعاية الصحية.
إضافة إلى ذلك، فإن عدالة توزيع الدخل ضرورية من الناحية الاقتصادية لظهور شواهد ميدانية على أنها تدعم مسيرة النمو الاقتصادي واستدامته. ويرى مختصون أن تدهور عدالة توزيع الدخل الحادة وطويلة الأجل قد يقود إلى تأثيرات سلبية، ما يخفض ميول الاستثمار ويؤثر بشكل سلبي في النمو. كما ترى دراسة لصندوق النقد الدولي أن تحرير التدفقات الرأسمالية الناتجة عن العولمة مصحوبة بتراجع عدالة توزيع الدخول مسؤولة بشكل جزئي عن الاختلالات الكبيرة في الموازين الخارجية العالمية.
تؤكد التجارب الاقتصادية لبعض الدول المتقدمة منذ عدة عقود أن تركز الدخول والخصوم الضريبية في الشرائح السكانية الأعلى دخلا لم يقد بالضرورة إلى تسربها نحو الشرائح السكانية الأقل دخلا، كما بشرت به اقتصادات ريجان. وتشير بيانات بعض الباحثين إلى أن زيادة حصة شريحة الخمس السكاني الأعلى دخلا في الناتج المحلي لها تأثير سلبي في النمو الاقتصادي متوسط الأجل. في المقابل، فإن نمو حصة شريحة الخمس السكاني الأقل دخلا يدعم معدلات النمو الاقتصادي بشكل ملحوظ في الأمد المتوسط، كما يدعم نمو حصص باقي الشرائح السكانية متوسطة الدخل النمو الاقتصادي، ولكن بمعدلات تقل بعض الشيء عن تأثير نمو حصة الأقل دخلا. وهذا يستدعي ضرورة تركيز السياسات على دعم دخول الشرائح السكانية الأقل دخلا لدعم مسيرة النمو الاقتصادي واستدامته.
يعود التأثير السلبي لنمو حصة دخول الأعلى دخلا في النمو الاقتصادي، إلى أن زيادة حصص الأغنياء الذين ينفقون نسبا أقل من دخولهم تخفض الإنفاق الاستهلاكي، كما أنها لا تعني بالضرورة زيادة الاستثمار الأعلى مردودا على الناتج، حيث قد تتوجه نسب كبيرة من زيادة دخولهم إلى المضاربة أو رفع أسعار الأصول أو الاستثمارات الخارجية أو الاكتناز أو دعم واردات سلع وخدمات الرفاهية المستوردة. في المقابل، يذهب معظم زيادة دخول الشرائح متوسطة ومتدنية الدخل لدعم استهلاك المنتجات والسلع والخدمات الأساسية وبنسبة أكبر على المحلي منها ما يعزز الطلب ويرفع معدلات النمو الاقتصادي. كما تمكن زيادة دخول الشرائح السكانية منخفضة ومتوسطة الدخل هذه الشرائح السكانية من تخصيص موارد أكثر للتعليم والتدريب والرعاية الصحية، ما يرفع كفاءة وإنتاجية هذه الشرائح السكانية من الأجيال الحالية والمستقبلية.
ينبغي هنا تأكيد أن وجود تمايز في الدخول ليس بالضرورة أمرا سيئا، بل هو أمر جيد، حيث لا بد من ظهور تفاوت في الدخول والأجور عائد للمجهودات والإبداعات الفردية في العمل والتعلم والادخار والحصافة المالية. فاختلاف الدخول يدفع فئات المجتمع لاكتساب المعرفة ومهارات العمل وأخلاقياته والسعي وراء الإبداع. أما انخفاض عدالة توزيع الدخل والفرص أمام شرائح سكانية أو أفراد لعوامل خارجة عن إراداتهم، كالعرق، أو اللون، أو المناطقية، أو الشريحة الاجتماعية، أو الجنس، أو الفساد والمحسوبية، أو السياسات، فهو أمر ممقوت وغير مقبول حيث يخفض كفاءة استخدام الموارد، وقد يؤثر في الاستقرار ويخفض الثقة بالمؤسسات العامة.
إنشرها