Author

عند الأزمات تصنع الثروات

|
واجه العالم أزمة اقتصادية طاحنة منذ بداية العام الحالي، حيث تراجع الناتج المحلي العالمي، وعانت الأغلبية الساحقة من دول العالم الركود الاقتصادي، وتراجعت دخول سكانها، وفقد ملايين كثر وظائفهم، وأفلست شركات كثيرة وأعمال متوسطة وصغيرة، كما تراجعت الإيرادات الحكومية. وعلى الرغم من تدهور الأحوال الاقتصادية حول العالم إلا أن أثرياء كثرا نجحوا في تحقيق أرباح فلكية. ولا تتوافر بيانات حديثة في معظم دول العالم عن تضخم ثروات الأغنياء إلا إذا كانت مرتبطة بالأسواق المالية، ومعلن عنها بشكل شفاف. وقد تكون الولايات المتحدة من الاستثناءات القليلة التي تتوافر فيها بيانات بهذا الشأن.
حقق أغنى الأغنياء في الولايات المتحدة مكاسب غير مسبوقة خلال الأشهر القليلة الماضية التي مرت منذ بداية جائحة كورونا. وتشير تقديرات مجلة "فوربس"، إلى أن ثروات أغنى 500 شخص في أمريكا ارتفعت بما يقارب 800 مليار دولار خلال الأشهر الخمسة المنتهية في آب (أغسطس) 2020. وهذا يمثل نموا في إجمالي قيم ثرواتهم بنسبة 27 في المائة. وكان هناك تركز كبير في نمو ثروات القابعين على رأس قائمة الثراء، حيث ارتفعت ثروات أغنى 12 بليونيرا أو مليارديرا بنحو 305 مليارات دولار. وتضخمت ثروة أغنى رجل في أمريكا - وربما في العالم - مؤسس "أمازون" بأكثر من 80 مليار دولار لتقارب قيمتها 200 مليار دولار، وبنسبة نمو تجاوزت 70 في المائة خلال خمسة أشهر. بينما لم يتجاوز نمو ثروة ثاني أغنى رجل - بل جيتس - 16 مليار دولار. حل في المركز الثاني في نمو الثروة إيلون مسك مؤسس "تسلا" الذي تضاعفت أصوله بأكثر من ثلاث مرات، كاسبا نحو 60 مليار دولار. أما مؤسس "فيسبوك" فتجاوزت مكاسبه 40 مليار دولار واقتربت قيمة ثروته من ثروة بل جيتس.
جلب التصاعد الكبير في ثروات الأغنياء انتباه المجتمعات العالمية، خصوصا الأمريكية، فالثروة تجلب معها النفوذ والقوة والتأثير. ويقود تركزها في أناس قلائل، إلى زيادة تشوه القرارات الاقتصادية والسياسية ما لم تتعامل معها الرشادة السياسية بحكمة تعظم فيها الرفاهية الاجتماعية. وأثار تضخم الثروات عديدا من التساؤلات حول عدالة الأنظمة الضريبية التي يعتقد كثيرون أنها تحابي الأغنياء. فقد حقق الأغنياء مكاسب كبيرة خلال الأزمة، بينما خسر ملايين الأشخاص أعمالهم، وعانت معظم الأعمال الصغيرة تراجع الأرباح والخسائر في كثير من الأحيان وارتفاعات كبيرة في معدلات الإفلاس. قبل أزمة كورونا كان كثير من المجتمعات يشتكي من تراجع عدالة توزيع الثروات والدخول، أما بعد الأزمة فقد تفاقم تراجع عدالة توزيع الثروات والدخول. ومن أكبر الشواهد على ذلك التركز المتزايد للثروة في أيادي أعداد محدودة من البشر. وتشير بعض المصادر إلى أن واحدا من ألف من سكان الولايات المتحدة يملكون نصف ثروة البلاد. طبعا لم يحقق جميع الأغنياء نموا في ثرواتهم فهناك شركات كبيرة أعلنت إفلاسها أو عانت خسائر فادحة.
في المقابل، يرى البعض أن مكاسب الأثرياء الكبيرة خلال الأزمة جاءت لأنهم يقدمون - من خلال شركاتهم - منتجات وخدمات نامية تتوسع ويرتفع عليها الطلب. وأسهم الإغلاق العظيم في زيادة حدة الطلب على خدمات وسلع أنواع معينة، كخدمات الإنترنت والتسوق الإلكتروني والتقنيات الجديدة. ويرى محللون أن تضخم ثروات الأغنياء جاء لصفات معينة بالأثرياء، أهمها: التركيز على الاستثمار، واستفادتهم وقدراتهم في الحصول على التمويل بأحجام أكبر وتكاليف أقل، والأهم من ذلك تمتعهم بالحصافة الاستثمارية المعظمة لتدفقات السيولة والعائد ونمو الأصول.
يمكن ارتفاع ثروات الأغنياء بتخصيص مبالغ ونسب أكبر من دخولهم للاستثمار، بينما يرتبط الباقون بنفقات الحياة وتأمين السكن الذي يستحوذ على معظم دخولهم. ووجدت دراسات متعددة أن معدلات العائد على استثمارات الأغنياء الضخمة أعلى بكثير من معدلات العائد على استثمارات باقي السكان التي تتركز عادة في اقتناء المساكن. إضافة إلى ذلك يميل الأغنياء لتنويع المخاطر الاستثمارية أكثر لأن لديهم مجالا أكبر للمخاطرة من الشرائح الأخرى. وترفع الأزمات عوائد الاستثمار طويل الأجل لانخفاض أسعار الأصول فيها ما يشجع الأغنياء على الاستثمار، بينما يعاني باقي السكان الضغوط المالية التي تجبر كثيرا منهم على بيع بعض استثماراتهم للوفاء بالتزاماتهم الحياتية. إضافة إلى ذلك، يملك الأغنياء خبرات ومعلومات أفضل واتصالات أقوى في الاستثمار، ويبحثون عن معدلات ربح أعلى محلية أو خارجية.
يقع كثير من اللوم على استفادة الأغنياء بشكل أكثر من التغيرات الاقتصادية على طبيعة الأنظمة الاقتصادية والمالية والسياسات الحكومية. وتتحيز الأنظمة الاقتصادية والمالية لتمويل الأثرياء الذين يحسنون استغلاله في تضخيم ثرواتهم. أما خلال الأزمات الاقتصادية فتحاول الدول تحفيز النمو الاقتصادي من خلال سياسات التيسير المالي والنقدي الذي يخفض معدلات الفائدة والضرائب ما يغذي فوائض التشغيل التي يعود معظم ريعها إلى الأغنياء. كما تتمتع جماعات الضغط التي يمولها عادة الأثرياء في مختلف الأنظمة السياسية بنفوذ واسع على صانعي القرار ومهندسي السياسات. ونتيجة لذلك يخرج كثير من الأنظمة والسياسات بحلل جميلة لمعظم السكان، ولكن يستفيد منها في الواقع الأثرياء بدرجة كبيرة. ويوجه بعض المحليين التهم بمساهمة الأنظمة التعليمية حول العالم في معضلة تركز الثروة لتجاهلها تعليم المهارات المالية التي تساعد الناس على زيادة دخولهم وثرواتهم.
إنشرها