Author

الابتكار والفجوة بين المعرفة والسوق

|
ليس الابتكار معرفة جديدة أو متجددة فقط، وليس الابتكار جهد فرد واحد يطلقه متى يشاء ليلقى الاستجابة والنجاح، بل إن الابتكار أكثر من ذلك. الابتكار فعليا يخضع لسلسلة من النشاطات، يشارك فيها أفراد، بل مؤسسات أيضا. إنه بهذه النشاطات المتسلسلة إجراء متكامل، يسلك مسارا محددا، كل نشاط فيه يعتمد على سابقه، ويمهد لما يليه. نقطة انطلاقه تعتمد على معرفة جديدة أو متجددة يقدمها المبدعون، ومكان وصوله قيمة تجذب المستفيدين منها، أي تلقى النجاح في السوق المستهدفة. وما بينهما محطات لنشاطات عدة، وأي عائق يطرأ على أي منها، يعطل المسار، ويوقف الابتكار، لتضيع بذلك قيمته المنشودة، وتذهب أيضا آمال تطويره واستمرار عطائه.
لكل ابتكار قيمة منشودة تستهدف التنمية، سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية أو إنسانية. فالابتكار المتمثل في منتج تقني ناجح، على سبيل المثال، يقدم قيمة يستفيد منها كثيرون، ويدفعون ثمنها، حيث يؤدي ذلك إلى توليد الثروة من أرباح المنتج من جهة، وتشغيل اليد العاملة من أجل تصنيع المنتج من جهة ثانية. وبذلك يحقق المنتج تنمية اقتصادية واجتماعية ليس فقط للمؤسسة التي تنتجه، وإنما للمجتمع من حول هذه المؤسسة أيضا. وبناء على ذلك، ينبغي القول، إن الابتكار وسيلة للتنمية، فإذا كانت التنمية ضرورة في حياة الإنسان في هذا العصر المزدحم بالمتغيرات والمنافسة، فإن الابتكار ضرورة أيضا للعمل على تحقيقها. أي: إن علينا أن نفعل جميع النشاطات عبر مسيرة الابتكار، ونزيل كل العوائق التي يمكن أن تبرز أمامه كي يصل إلى مبتغاه.
سنحاول فيما يلي إلقاء الضوء على مسيرة الابتكار ابتداء من المعرفة الجديدة أو المتجددة التي يستند إليها، ووصولا إلى السوق التي يستهدفها. تنطلق المعرفة من البحث العلمي، وما يقدمه من اكتشاف للحقائق، وما يعطيه من إبداع في الأفكار عبر تقديم أدلة ذهنية أو إثباتات تجريبية، أو الاثنتين معا، على مضامين هذه الحقائق والأفكار. ويمكن النظر إلى مسيرة الابتكار من المعرفة إلى السوق من خلال محطات البحث والتطوير R&D التي وضعتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم اليونيسكو UNESCO.
تطرح "اليونيسكو" ثلاث محطات للبحث العلمي وتوليد المعرفة، ثم تعطي محطتين للتطوير وتقديم مبتكرات تحمل قيمة متميزة تطلبها السوق، أو ربما محفزة لطلب السوق. تقدم محطة البحث العلمي الأولى بحوثا أساسية نقية Pure Basic Research، تبحث في المعرفة من أجل المعرفة، وتطرح مكتشفات وأفكارا تعطي رصيدا معرفيا، يرضي فضول الإنسان وتوقه الفطري إلى المعرفة، دون أن يكون موجها لفوائد على أرض الواقع، إلا بالأمل في بروز مثل هذه الفوائد يوما من الأيام في المستقبل. أما المحطة الثانية فتهتم بالبحوث الأساسية الموجهة Directed Basic Research التي تطرح مكتشفات وأفكارا جديدة تسعى إلى التطبيق، وتقديم معطيات مفيدة في المستقبل، لكن ليست بالضرورة على المدى القريب. وتأتي المحطة الثالثة بعد ذلك لتركز على البحوث التطبيقية Applied Research، التي تعطي مكتشفات وأفكارا جديدة غايتها تقديم معطيات معرفية قابلة للتطبيق وجني الفوائد بشكل مباشر، وعلى المدى القريب.
تمثل المحطات البحثية الثلاث المنهل الرئيس للمعرفة الجديدة، وهي المحطات التي تعتمدها الجامعات في معاييرها للدرجات العلمية البحثية. فمن يتقدم برسالة جامعية تعطي معرفة أساسية نقية، أو موجهة، أو تطبيقية، يمنح درجة علمية بحثية على مستوى الماجستير أو الدكتوراه، تبعا لمستوى المعايير الجامعية المعتمدة. وبالطبع لا تكون غاية مثل هذه البحوث بالضرورة هي الدرجات العلمية فقط، بل ربما تكون أيضا جزءا من خطط وطنية أو خطط لمؤسسات وشركات مختلفة تتطلع عبر دعم هذه البحوث إلى رسم طريق للمستقبل. وتسعى مثل هذه البحوث المدعمة إلى الانتقال إلى محطتي التطوير الخاصتين بالتوجه نحو السوق.
تهتم محطة التطوير الأولى بما يدعى التطوير التجريبي Experimental Development، وهو العمل الذي ينهل من المعرفة التي تقدمها محطات البحث العلمي سابقة الذكر ليدرس تجريبيا مزايا تطبيقها على أرض الواقع، وتحويلها إلى قيمة تستجيب لمتطلبات السوق أو تحفزها. وتأتي محطة التطوير الثانية، بعد ذلك، لتركز على تطوير المنتج Product Development المأمول تقديمه إلى السوق. ولعل من المفيد هنا الإشارة إلى أن متطلبات السوق في مجال المنتجات المادية الجديدة، على سبيل المثال، لا تهتم بالناحية الوظيفية للمنتج فقط، بل تهتم أيضا بالنواحي الاقتصادية، والاجتماعية، وربما الحسية المظهرية أيضا. وغالبا ما تقوم الشركات بتنفيذ مهمات كل من التطوير التجريبي وتطوير المنتجات، في إطار توجهاتها المستقبلية.
يحتاج الابتكار الناجح إلى المعرفة المفيدة التي تقدمها محطات البحث العلمي الثلاث، خصوصا تلك التي تقدمها البحوث التطبيقية. كما يحتاج أيضا إلى التطوير التجريبي، الذي يبرز مزايا هذه المعرفة ويمهد للتطوير المنتظر للمنتجات، بما يناسب السوق. ويعد أي انقطاع في هذه السلسلة، رصاصة تطلق على الابتكار المنشود لتصيبه في مقتل. وبالفعل، تدعى الفجوة بين الجانب البحثي المعرفي للابتكار من جهة، والجانب التطويري المتطلع إلى السوق من جهة أخرى، بوادي موت الابتكار Death Valley، لأن وجود هذه الفجوة يطلق بالفعل النار على الابتكار. فالمعرفة المطلوبة للابتكار تبقى محصورة في طرف، وتبقى نشاطات التطوير القادرة على تفعيلها وتحويلها إلى السوق فاقدة للمعرفة المفيدة التي تحركها.
يحتاج تفعيل الابتكار وتوظيفه في التنمية المنشودة إلى التكامل بين نشاطات توليد المعرفة، ونشاطات تطويرها ونقل أثرها إلى السوق. وهناك وسيلتان رئيستان لتحقيق ذلك. تختص الوسيلة الأولى بتفعيل التعاون بين الجامعات والشركات عبر برامج مشتركة تبني جسورا تتجاوز وادي موت الابتكار في المجال أو المجالات المشتركة بينهما. وتركز الوسيلة الثانية على تفعيل دور حدائق التقنية في الجامعات في حضانة وإطلاق شركات ناشئة تقدم مبتكرات جديدة، حيث تقوم الجامعات ليس فقط بتوليد المعرفة اللازمة لها، بل برعاية نشاطات تطويرها باتجاه السوق أيضا.
إنشرها