Author

كيف استطاعت السويد الثبات على موقفها في مواجهة الجائحة؟

|
أستاذ جامعي ـ السويد
لا أظن في نية أي مسؤول سويدي إعلان الانتصار على فيروس كورونا رغم انحساره بشكل كبير، ما جعل السلطات الصحية والمسؤولين السياسيين يتنفسون الصعداء بعد أن كانوا تحت وابل من الهجوم والنقد اللاذع والاتهامات أنهم يقودون شعبهم صوب الكارثة.
تحدثنا كثيرا عن التجربة السويدية وحاولنا نقلها بأمانة إلى قراء جريدتنا الغراء، التركيز على السياسات التي تتبعها السويد لاحتواء وباء العصر وفيروسه الفتاك جدير بالملاحظة والتغطية والتأمل والدراسة ومن ثم التعلم من إخفاقاتها ونجاحاتها.
في نحو منتصف أيار (مايو)، وبالذات في الأسبوع الذي وصلت فيه الوفيات في السويد بسبب الوباء إلى أعلى معدل لها في أوروبا، وصل الضغط على مديرية الصحة العامة مبلغا، إلى درجة بروز بوادر تململ في فريق العلماء والمختصين الذي يرسم سياسة الدولة الخاصة بمكافحة الوباء.
وفي حينه كاد الفريق يرفع الراية البيضاء أمام منتقديه، لولا رباطة جأش أندش تيكنيل عالم الدولة للأوبئة الذي بقي صامدا غير مكترث لما يأتيه من هجوم من ضمنها تهديدات بالقتل.
وانقسم العلماء في السويد إلى قسمين: مؤيد ومعارض. المعارضون كانوا يقولون، إن سياسات تيكنيل ستدمر البلد وعليه أن يتبع الإجراءات القسرية السارية لدى أغلب دول العالم في التعامل مع الجائحة. المؤيدون اتكأوا على الإرث الدستوري والثقافي والعلمي في مواجهة الكوارث التي تبنتها السويد في العقود الماضية.
لم يكن لتيكنيل ومؤيديه أن يصمدوا لو كانوا في أي بلد آخر في العالم والجائحة تفتك بالمسنين، حيث إن نحو نسبة 50 في المائة من الوفيات التي تجاوزت خمسة آلاف و750 حالة كانت في صفوفهم. للمسنين مكانة لا يعلى عليها في بلد مثل السويد.
واتخذ المعارضون النسبة الكبيرة من الوفيات في صفوف المسنين برهانا على فشل تيكنيل. ومن ثم أتت الإحصاءات التي أظهرت أن نسبة الوفيات في صفوف السويديين من الأصول الأجنبية أعلى بكثير من المواطنين السويديين. وكأن هذا لم يكن كافيا، حيث ظهرت دراسات أخرى تشير إلى أن الوباء متفش بصورة كبيرة في المناطق التي يقطنها أغلب اللاجئين والسويديين ذوي الأصول الأجنبية.
وكاد صوت تيكنيل يبح في مؤتمراته الصحافية شبه اليومية وهو يطلب من الناس ومعارضيه الصبر، وأن سياسته ستؤتي أكلها في المستقبل وأن العالم الذي حولهم، حيث يطبق الإجراءات القسرية القاسية، سيضطر في النهاية إلى التفكير مليا في التجربة السويدية والتعلم منها.
وأتاه مدد من عالم سويدي كبير آخر، يوهان كيسيكي الذي كان سلفه في منصبه ويعمل حاليا مستشارا في منظمة الصحة العالمية، حيث صرح في أيار (مايو) الماضي بعد الارتفاع الملحوظ في الوفيات أن سياسة السويد، رغم إخفاقها في الحد من انتشار الوباء، سيكتب لها النجاح في المستقبل.
معارضو تيكنيل كانوا بحاجة إلى ما يشبه الثورة أو الانقلاب كي ينالوا منه، وهذا غير ممكن في دولة مؤسسات رصينة مثل السويد. وتيكنيل كان على علم بأن الدستور السويدي بجانبه طالما أن سياساته لا تقترب من مس الحرية الفردية التي يقدسها الناس هنا.
ومن حسن حظ تيكنيل فإن ارتفاع مؤشر الإصابات إلى درجة مخيفة أتى في فصل الربيع أيار (مايو) هو الشهر الذي يخرج فيه السويديون من مخابئهم - شققهم - ويهرعون للتمتع بأشعة الشمس وشواطئ البحيرات والحدائق العامة والأجزاء المحمية من الغابات الطبيعية.
أي قرار لإبقاء السويديين حبيسي ديارهم بعد شتاء مظلم، حيث في كثير من المناطق يقتصر النهار على ساعة أو ساعتين، كان سيكون له آثار مدمرة في نفسية الشعب السويدي الذي ترتفع نسبة المكتئبين في صفوفه، ونسبة الانتحار فيه هي الأعلى في العالم.
لم يكن الناس خارج السويد تفقه كيف لعالم مثل تيكنيل يدعو الشعب إلى عدم الاكتراث بالوباء والتمتع بأشعة الشمس، ونسبة الوفيات بسبب الوباء في مستويات هي الأعلى في العالم، وحكومات الدنيا قد حبست ليس أنفاسها بل شعبها في بيوتهم.
ولم يكن الناس خارج السويد تفقه كيف لحكومة وسلطة تنفيذية ترك مصير شعب من عشرة ملايين في أيادي مديرية الصحة العامة وعالم مغمور فيها، رغم الارتفاع المخيف في نسبة الوفيات والإصابات.
المسؤولون في مديرية الصحة كانوا على علم بأنه لا الحكومة ولا أي سلطة تنفيذية أخرى من حقها التدخل في شؤونهم لأن القانون بجانبهم.
وإن كانت مفردة يقدسها الشعب هنا فهي lag السويدية، أي القانون.
وتيكنيل رغم وجهه المكفهر وغياب الابتسامة عن محياه، إلا أنه مدافع شرس عن مواقفه، وكان يستغل ولا يزال طلته شبه اليومية في الإعلام واهتمام العالم به لدحض مواقف معترضيه.
كانت له أجوبة وكأنها معدة سلفا لكل سؤال عما يبدو تقصيرا منه. كان يجيب بلباقة لكن لم يتخل أبدا عن تحمل مسؤولية سياساته، ويقال إنه دعا إلى تشكيل لجنة تحقيقية للبت فيها وسيتحمل أي تقصير قد تضع يدها عليه.
فعزا تفشي الوباء في بيوت المسنين إلى قرار حكومي قبل نحو عشرة أعوام تخلت الدولة بموجبه عن رعاية بيوتهم وسلمتها إلى القطاع الخاص حيث برزت إخفاقات كثيرة.
وعزا ارتفاع نسبة الوفيات في صفوف اللاجئين والسويديين من أصول أجنبية إلى اختلاف الثقافة، حيث التباعد الاجتماعي غير مرغوب فيه، لا بل منبوذ في المجتمعات الشرقية، بينما هو محبب في المجتمع السويدي. وسيكون لنا عودة للموضوع كي نشرح فيه لقرائنا بعض الشؤون التي هي خافية عن العالم حول لماذا شذت السويد عن باقي الدول في تعاملها مع الجائحة؟.
إنشرها