Author

العملة المهيمنة

|
يهيمن الدولار الأمريكي بشكل موسع على تسعير وفوترة التجارة العالمية، ويشير بعض تقديرات التجارة العالمية إلى استخدامه في فوترة ما لا يقل عن أربعة أضعاف التجارة الخارجية الأمريكية. ولو استثنيت تجارة الاتحاد الأوروبي البينية من التجارة العالمية لمثّل الدولار معظم فوترة التجارة العالمية. أما بالنسبة لمعظم الدول النامية أو الصاعدة، فإن تشكيل المواد الأولية جزءا كبيرا من صادراتها، رفع هيمنة الدولار على صادراتها لما لا يقل عن 90 في المائة من إجماليها. وترتفع هيمنة الدولار في التجارة الخارجية لدول شرق آسيا وآسيا بشكل عام والأمريكتين الشمالية والجنوبية، بينما تتراجع قليلا في منطقة اليورو والدول التي ترتفع تجارتها مع منطقة اليورو كباقي الدول الأوروبية وشمال إفريقيا. ولو نظرنا إلى تجارة المملكة الخارجية، فإن معظم صادراتها وأهمها النفط ومنتجاته والبتروكيماويات تسعر وتفوتر بالدولار، وينطبق الحال على الواردات. ويرفع تثبيت سعر الريال مع الدولار بشكل شبه آلي هيمنة الدولار على تجارة المملكة الخارجية إلى نحو 100 في المائة، وهذا ينطبق على كل الدول المثبتة لأسعار عملاتها مع الدولار الأمريكي.
يستخدم المنتجون الدولار بشكل موسع في تحديد أسعارهم لعدة أسباب لعل من أبرزها، تثبيت أسعار سلعهم ومنتجاتهم بالعملة المهيمنة في التجارة العالمية للمنافسة مع المنتجين الآخرين، ولتكون أسعار منتجاتهم قريبة من أسعار منافسيهم. فاستخدام العملة المحلية أو عملة الدولة الموردة أو المصدرة يزيد حدة التقلبات السعرية للمنتج أو السلعة، ما يؤثر في قدراتهم التنافسية، خصوصا في المنتجات والسلع الحساسة لتغيرات الأسعار، ويستخدم المنتجون العملة المهيمنة أيضا لأن معظم المواد الأولية ونسبة كبيرة من المنتجات الوسيطة تسعر بالدولار. ويتسبب استخدام عملات أخرى غير العملة المهيمنة في تقلبات في التكاليف تؤثر في ميزانيات المنتجين، كما يفضل المنتجون العملة المهيمنة لأن نسبة كبيرة من التمويل والتعاملات المالية، خصوصا الخارجية تتم بالدولار، ويميل منتجون كثر في الدول النامية إلى استخدام الدولار لتوفير موارد بالعملة الصعبة لاستخدامها في شراء المدخلات المستوردة، ولأن سعره أكثر استقرارا من أسعار عملات دولهم، كما قد يستخدم الدولار في الفوترة داخل الدول، التي تعاني عملاتها تقلبات حادة، ما يرفع استخدام الدولار الأمريكي.
تشير بيانات صندوق النقد الدولي إلى زيادة معدلات نفاذ تغيرات أسعار الدولار في الدول النامية، ما يؤكد ارتفاع استخدامه في تجارة هذه الدول الخارجية بمعدلات تفوق استخدام الاقتصادات الكبيرة. وقد يكون هذا راجعا أيضا لانخفاض نسب القيمة المضافة للمنتجات في الدول النامية، وكذلك لصغر اقتصاداتها واعتمادها بشكل أكبر على التجارة الخارجية، مقارنة بالدول الاقتصادية الكبرى. وترتفع معدلات نفاذ تغيرات أسعار الدولار في الأمد القصير وتنخفض مع مرور الوقت لتكيف المنتجين مع تغيرات العملة واستغلالهم لانخفاض تكاليفهم المحلية في زيادة قدراتهم التنافسية ولو بتعديل الأسعار.
أثر الاستخدام الموسع للدولار في فوترة التجارة الخارجية العالمية في مفاهيم تغيرات أسعار العملة على السياسات النقدية والتجارة الخارجية. فقد كان المفهوم التقليدي يؤكد أن خفض العملة المحلية يشجع الصادرات، ويخفض الواردات، ويحسن الموازين الخارجية للدول التي تعاني مصاعب في موازينها الخارجية. وكانت المؤسسات الدولية توصي به الدول، التي تعاني اختلالات التجارة الخارجية. في المقابل، تشير تجارب دول عديدة خفضت عملاتها وتستخدم العملة المهيمنة في تجارتها إلى استقرار حجم صادراتها بالعملة المهيمنة وعدم تحسنها في الأمد القصير، أما حجم الواردات فيتراجع، ما يخفض أهمية الدولة التجارية خلال الأمد القصير، أما في الأمد المتوسط فيظهر بعض التحسن في الصادرات، ولكن ليس بالمستوى، الذي تصبو إليه الدول.
قاد استخدام العملة المهيمنة بنطاق واسع في التجارة العالمية إلى تأثرها بتقلبات الدولار، فعند ارتفاع معدلات صرف الدولار تتراجع واردات معظم دول العالم بسبب ارتفاع أسعارها في الدول غير المستخدمة أو المثبتة عملاتها مع الدولار، ما يقود إلى تراجع حجم أو معدلات نمو التجارة العالمية. في المقابل، يؤدي تراجع الدولار إلى التأثير سلبا في واردات الدول المستخدمة للدولار أو المثبتة عملاتها معه. أما بالنسبة للمواد الأولية، فإن تقلبات أسعار الدولار تؤثر بشكل واضح في أسعارها، خصوصا النفط، حيث يقود ارتفاعه القوي إلى التأثير بشكل سلبي مخفضا الطلب العالمي عليه، بينما يعزز تراجعه القوي الطلب العالمي عليه.
استخدامات الدولار كعملة مهيمنة عزز مكانته العالمية ومكانة مجلس الاحتياط الفيدرالي، ورفع حساسية التجارة العالمية والسياسات النقدية لأسعار صرفه، وهذا يضع ضغوطا على دول العالم، وليس الولايات المتحدة وحدها لخفض تقلبات الدولار، ويجعل من هذه التقلبات مشكلة عالمية وليست محصورة في الولايات المتحدة، ويرفع تكاليف وتأثيرات هذه التقلبات في الاقتصاد العالمي. كما يضيف استخدام العملة المهيمنة إلى مسؤوليات البنوك المركزية استهداف أسعار صرف الدولار، إضافة إلى مهامها الأصلية في استهداف معدلات التضخم والنمو الاقتصادي. وتقلل هيمنة الدولار في التجارة العالمية من جدوى خفض معدلات الصرف، حيث تتراجع مكاسب الدول من خفض عملاتها، في المقابل ترتفع تكاليف هذه السياسات المحلية، التي تقود إلى رفع معدلات التضخم، وخفض الأجور الحقيقية للعمالة، ما يترتب عليه تراجع عدالة توزيع الدخل وارتفاع معدلات الفقر داخل المجتمعات.
إنشرها