default Author

الشعبوية الاقتصادية وعصر العولمة «3 من 3»

|
يتبنى الشعبويون سياسات غير معتدلة وغير مستدامة كنوع من الإثبات للناخبين أنهم "السياسيون" ليسوا أدوات في أيادي النخب القوية. لذلك فما يبدو في الظاهر كسلوكيات اقتصادية انهزامية تصبح منطقية للغاية بمجرد أخذ الهوية في الحسبان. وتنطوي الشعبوية على عديد من خيارات السياسات الاقتصادية الانهزامية.
وتحقق الهوية عائدا اجتماعيا وسياسيا متزايدا. لذلك فمع ارتفاع نسبة الأفراد الذين يعلنون انتماءهم إلى مجموعة معينة، تزداد الضغوط الاجتماعية للانتماء إلى هذه المجموعة وسلك مسلكها. أو قد يختار الفرد الانتماء إلى مجموعة ما، وبمجرد انضمامه لها، يبدأ في التصرف على نحو يساعده على اختصار المسافة بينه وبين هذه المجموعة.
وعندما تصبح الهوية أحد أهم محددات السلوك السياسي، تثبت أسلحة أخرى بخلاف السياسات الاقتصادية فعاليتها في المعركة السياسية. فالخطابات السامة التي تزكي الانقسامات غالبا ما يستخدمها السياسيون الشعبويون على نحو استراتيجي، من أجل «تعبئة القاعدة» وتغيير أوزان مجموعات الهوية المتنازعة. وهكذا فإن فساد الشعبويين ليس وليد الصدفة، ولكنه جزء أصيل من تكوينهم.
وإذا كانت الهوية أحد العناصر الأساسية التي يقوم عليها مفهوم الشعبوية، حيث كان مفهوم الشعبوية جزءا رئيسا من السياسات المعاصرة، فكيف ينبغي أن يكون رد فعل السياسيين وصناع السياسات الديمقراطيين؟ يجب عليهم أولا إخراج رؤوسهم من الرمال والاعتراف بأهمية الهوية، وإن آثارها الجانبية ليست جيدة دائما.
ويفضي التركيز على الهوية أيضا إلى زيادة التركيز على قضايا طالما تم تجاهلها، أو التعامل معها بصورة خاطئة. ولنتذكر على سبيل المثال المحنة التي تعرضت لها بعض المدن نتيجة فقدان الوظائف بسبب تقليص الأنشطة الصناعية. فعادة ما كان ينصح في الماضي بالانتقال إلى مكان آخر يزخر بوظائف عالية الأجر. ولكننا نعلم حاليا أن هذه النصيحة ليست سليمة بالضرورة. فنتيجتها لا تقتصر على هجرة ذوي المؤهلات العلمية الأعلى ورواد الأعمال، تاركين وراءهم مجتمعات تكافح من أجل استمرار الأعمال وكسب ما يكفي لتلبية الاحتياجات الأساسية، بل إن مزيج فقدان الوظائف والهجرة أدى أيضا إلى إضعاف المجتمعات المحلية، وفرض تحديات أمام هويتها المشتركة. لذلك تمثل السياسات المكانية عنصرا أساسيا في مجموعة الأدوات التي يجب توافرها لصناع السياسات الديمقراطيين.
وثمة أمر آخر يجب أن تطوله يد التغيير، إذ يجب أن يتعلم القادة كيفية ممارسة سياسات الهوية المعتدلة. فالبشر لا يمكنهم التخلي عن هوياتهم الفردية التي تترسخ جذورها بداخلهم. ولكن الهويات المشتركة مهمة أيضا، ويمكن أن تكون أساسا للشعور بالمصير المشترك، الذي هو جوهر السياسات الرشيدة. وكما أشار المؤرخ مايكل إجناتييف في عدد الخامس من أيلول (سبتمبر) 2019 من جريدة "فاينانشيال تايمز"، فإن «الهوية الوطنية هي نزاع دائم حول من ينتمي إلى الكينونة الوطنية»، والبديل الوحيد لهذا الانقسام هو الهوية المشتركة، وحب البلد لا يستند إلى شعور مغلوط بالتفوق العنصري، بل ينبع من حقيقة ما يعبر عنه وطننا من قيم عالمية نبيلة.
إنشرها