default Author

الشعبوية الاقتصادية وعصر العولمة «1 من 3»

|
ما المقصود بالشعبوية؟ عرف الاقتصاديون هذه الظاهرة من المنظور الاقتصادي فحسب. ووفق التعريف التقليدي، فإن "الشعبوية نهج اقتصادي يركز على النمو وإعادة توزيع الدخل ويغفل مخاطر التضخم وتمويل العجز، والقيود الخارجية، ورد فعل الكيانات الاقتصادية تجاه السياسات غير السوقية الصارمة". ومشكلة هذا التعريف أنه لا ينطبق على معظم النظم التي توصف اليوم بأنها نظم شعبوية. ويمكن أن نجد هذه الأمثلة حتى على مستوى الحكومات الشعبوية اليسارية في أمريكا اللاتينية - التي يفترض أن ينطبق عليها تماما التعريف الوارد في دراسة Edwards Dornbusch. فخلال الأعوام الأولى على الأقل من توليه السلطة، اتبع إيفو مورالس رئيس بوليفيا السابق، سياسة تحوطية في إدارة إيرادات بلاده من الغاز، وقام الرئيس المكسيكي أندريس مانويل لوبيز أوبرادور، أخيرا، بتخفيض المصروفات بحيث يظل عجز الموازنة ضمن حدود منخفضة. يقدم مفهوم الشعبوية السياسية، وهو مختلف عن الشعبوية الاقتصادية، حلا لهذه المعضلة، ويمكن تطبيق أحدهما دون الآخر. ويقصد بالشعبوية هنا، إدارة السياسات بشكل قائم على النزاع في الأساس، حيث يوجد دائما صراع بين مجموعة متجانسة يطلق عليها "الشعب" والآخرون "النخبة" والأقليات المحلية والمهاجرون والأجانب.
وتركز دراسة Müller على تعريف السياسات الأخلاقية من منظور الشعبويين: فالسياسات التي تأخذ صف الشعب تعد سياسات أخلاقية، أما سائر السياسات الأخرى فتفتقر إلى الحس الأخلاقي ولا تهدف سوى إلى تحقيق رغبات النخبة الفاسدة.
ويرتكز المنظور الشعبوي للسياسة على ثلاثة عناصر: إنكار التنوع والتعقد، ومناهضة التعددية، وشخصنة التمثيل السياسي. فمعظمنا يعتقد أن الخيارات الاجتماعية معقدة - بناء مزيد من المدارس أم المستشفيات؟ تحفيز أم تثبيط التجارة الدولية؟ لكن ذلك يتنافى مع اعتقاد الشعبويين. لذلك، لا يؤمن الشعبويون بالتعددية بالطبع. فبالنسبة إليهم، لا يوجد سوى رأي واحد صحيح - ألا وهو رأي الشعب - وهو بالتالي الرأي الوحيد الذي يحظى بالشرعية السياسية. وتصبح بالتالي الآليات المعقدة للعملية الديمقراطية الليبرالية، بما في ذلك التفويض والتمثيل، غير ضرورية. وتنتفي الحاجة إلى إجراء مناقشات برلمانية لا نهائية: الوحدوية في "إرادة الشعب"، فمن الممكن التعبير عن تصويت واحد. وهذا ما يفسر حب الشعبويين للاستفتاءات وميلهم نحو السير في منعطف السلطوية أو الدكتاتورية المطلقة الزلق.
وحول السؤال المطروح أن السياسة تتفوق على الاقتصاد، إذن ما السبب وراء صعود الشعبوية؟ الإجابة المعتادة هي الموارد المالية. ففي دول مثل المملكة المتحدة والولايات المتحدة، اختلت خريطة توزيع الدخل، وأصبح أعلى 1 في المائة من أصحاب الدخول يحصدون نصيب الأسد. وفي الدول التي سبقها ركب التطور التكنولوجي والعولمة، فقد المواطنون وظائفهم ونفد صبرهم. ولم تتسبب الأزمة المالية العالمية في 2008 في أضرار كبيرة فحسب، بل أكدت القناعة بوجود عداء بين المواطن العادي وعالم الأعمال والشركات الكبرى. لذلك، ليس من المستغرب أن نرى أن السياسة قد تحولت إلى مجال للتصادم والخلاف، وأن الشعبويين أصبحت لهم اليد العليا.
وإذا صدق هذا التفسير، سيكون من السهل استنتاج السياسات اللازمة: فرض ضرائب على الأغنياء، وإعادة توزيع مزيد من الدخل، والتخلص من المغرضين الذين حققوا للمصرفيين مرادهم. وستندثر الشعبوية في نهاية المطاف. التفسير المعتاد بسيط ومقنع. لكن ما مدى دقته؟ وهل يصح الاعتماد عليه في تحديد استجابة السياسات؟
وتشير دراسات تجريبية كثيرة إلى أن القوى وراء الشعبوية في أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية هي قوى اقتصادية في الأغلب. لكن توجد كذلك مجموعة وفيرة من الدراسات التي خلصت إلى أن صعود الشعبوية ناتج عن رد فعل ثقافي معاكس، وقد غطت الأحزاب الشعبوية 31 دولة أوروبية، ولا تقتصر الشواهد المؤيدة لوجهة النظر الأخيرة على المملكة المتحدة والولايات المتحدة فحسب. ويخلص المؤلفان إلى أن "معظم الشواهد المتسقة تؤيد عموما فرضية رد الفعل الثقافي المعاكس"، وتتمحور معظم الشواهد الرسمية حتى الآن حول المصادر المحتملة للشعبوية في الدول الغنية في أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية، بينما توجد ندرة كبيرة في البحوث التجريبية الرسمية حول أسباب الشعبوية في الاقتصادات الصاعدة. لكن الشواهد غير الرسمية تشير إلى تفسير مختلف عما يثار غالبا عند الحديث عن الدول الغنية... يتبع.
إنشرها