Author

التباعد الاجتماعي على الطريقة السويدية

|
أستاذ جامعي ـ السويد
في مساء يوم الخميس الماضي كنت في طريقي إلى منزلي في الطرف المقابل من بحيرة جميلة تفصل بيني وبين الحرم الجامعي بعد يوم مضن من العمل.
كان يوما صيفيا جميلا. ورغم أنه لم يكن يوم عطلة، إلا أن الناس كأنها خرجت في نزهة للاستمتاع بأشعة الشمس التي لا تغرب الآن حتى ساعة متأخرة، ما يعد ليلا في أغلب مناطق العالم.
إن كان يوم السويد محبطا وكئيبا وحزينا في الشتاء، لندرة الضياء وأشعة الشمس وقصر النهار، فإن الوضع يختلف تماما مع مقدم الصيف حيث الليل القصير والنهار الطويل.
وكم أناجي الليل أن ينجلي في الشتاء، لأنني أحيانا أكاد أفقد حاسة التمييز بينه وبين النهار. بيد أن مقدم الصيف يأخذ بألبابي ويجعلني أعيش فترة نحو ستة أشهر كأنها نهار طويل.
إن كانت ليالي دول شمال أوروبا، مثل السويد وفنلندا والنرويج، تقهر نهرها في الشتاء، فإن الشمس تبدد ظلامها الدامس في الصيف. وكل نهار مشمس في الصيف حيث تبزغ أشعة الشمس فيه حاليا من الرابعة صباحا ولا تختفي حتى العاشرة ليلا، هو بمنزلة طقس ممارسته صارت جزءا من ثقافة الناس هنا.
وتزداد ممارسة الطقوس شدة ومتعة وتصل إلى الذروة في منتصف الصيف الذي عادة يقع في جمعة بين 19 و25 من هذا الشهر، الفترة التي تقريبا يغيب فيها الليل بدجاه في أغلب المناطق، وبالكاد يتذكر المرء أن الظلام له وجود.
أذكر هذه الأمور، لأن لها علاقة بطريقة تعامل السويد مع الجائحة ووباء كوفيد – 19، السويديون، دون الأمم الأخرى، متباعدون اجتماعيا في الأساس. قلما ترى سويديا يحضن الآخر. السويدي لا يقبل أن تربت على كتفه أو تقبله أو حتى تلمسه وإن كان قد مضى على غيابه عند إلقاء التحية عليه زمن طويل. وفي الحافلات ووسائل النقل يجلس المسافرون في الأغلب - عن بعد - عن بعضهم، ولا يشاركون المقاعد إلا عند الضرورة القصوى.
وقد يتباعد السويديون عن أي شيء لكن ليس عن الصيف الذي ينتظرونه بشغف بعد شتاء متجهم وقاس. حرمان السويديين من التمتع بالطبيعة الخلابة التي تكسوها الزهور في الصيف والغابات المخضرة والبحيرات المليئة بالأسماك، خصوصا الشمس وأشعتها - أي فرض التباعد الاجتماعي بينهم وبين الطبيعة - قد يعد أقسى عقوبة يمكن تصورها.
وأعود إلى يوم الخميس الفائت، حيث اكتظ الرصيف حول البحيرة التي تفصل منزلي عن الحرم الجامعي بالناس وامتلأت المطاعم والمقاهي المطلة عليها بالرواد في مشهد كأن هؤلاء الناس لم تطرق آذانهم أخبار الجائحة وما تحدثه من خوف وفزع في أغلب المجتمعات والدول.
شخصيا لا أحبذ استخدام الأجهزة الرقمية الذكية لالتقاط صور ثابتة كانت أو متحركة، لكن لا إراديا أخرجت هاتفي من حقيبتي وأخذت صورة لأحد المطاعم المكتظة بالزبائن وأرسلتها إلى بعض معارفي. وحال رؤية الصورة، وافتني تعليقات كثيرة وتعقيبات ليس إن كان هذا ممكنا بل إن كان صحيحا وبالشكل الذي أظهرته الصورة.
قصة تعامل السويد مع الجائحة تقريبا على كل لسان، وليست هناك غرابة أو علامة استفهام أو تعجب في هذا البلد للطريقة التي اختارتها حكومتهم للتعايش مع وباء أفزع أكثر الدول منعة وتطورا، الاندهاش والتعجب والحيرة على لسان الدول والمجتمعات التي فرضت ولا تزال إجراءات قسرية وصلت تقريبا إلى الغلق التام وهي تلاحظ من شاشات التلفزة كيف أن السويديين يمارسون طقوس الاحتفاء بمقدم الصيف دون اكتراث.
عندما سأل صحافيون أندش تيكنيل، عالم الدولة للأوبئة، الذي تأخذ الحكومة برأيه حول الإجراءات الواجبة لاحتواء الجائحة، عن الإصابات والضحايا، كانت هناك نبرة حزن في صوته، إلا أنه نصح مواطنيه بعدم تفويت فرصة التمتع بالطبيعة والشمس والصيف البهي بعد شتاء قارس ومظلم.
وأكد لهم في ظهوره شبه اليومي في الإعلام أن لا داعي للقلق، وأن الدول الغربية تبحث عنه وتتصل به لمعرفة مزيد عن التجربة السويدية في التعايش مع الجائحة دون فرض إجراءات قسرية أو غلق محكم، وأنها تطلب نصائحه وهي في طريقها للسماح لشعوبها بالعودة التدريجية إلى ممارسة حياتها الطبيعية.
وكما قلنا في مقال سابق، فإن عالم الأوبئة هذا صار أيقونة ترى اليوم صوره على القمصان، ومن الناس من يوشمها على جسمه، ويحتفي أصحاب المطاعم والمقاهي به وذلك بشراء صحون وكؤوس وفناجين تحمل طبع صورته.
وصل عدد ضحايا الجائحة في السويد ذات العشرة ملايين نسمة إلى 4,403 أشخاص وعدد الإصابات إلى 37,814 حتى يوم الثلاثاء الفائت، وهو اليوم الذي أخصصه لكتابة المقال الأسبوعي، مع هذا يردد تيكنيل أن الوضع على ما يرام ويدعو السويديين إلى الاستمتاع بالطبيعة والشمس في الصيف.
واحد من أهم أركان سياسته يستند إلى منعة وقوة النظام الصحي في السويد، الذي يبدو أنه نجح حتى الآن في استقبال كل المصابين الذين يحتاجون إلى الرعاية، ويقول إن وضع السويد جيد مقارنة بالدول التي مارست الغلق التام، إن أخذنا عدد الوفيات نسبة إلى عدد المصابين.
نسبة الوفيات تبلغ 11.6 بين كل 100 مصاب بالجائحة في السويد، بينما وصلت إلى 15.2 في فرنسا، و14.4 في إيطاليا و14.1 في بريطانيا و16.2 في بلجيكا و12.8 في هولندا 11.3 في إسبانيا، وكل هذه الدول طبقت إجراءات قسرية مشددة وتقريبا غلقا تاما لأغلب النشاطات الاقتصادية والاجتماعية.
إنشرها