Author

كورونا وثلاثية الدعوة والتواصل والتعبئة الاجتماعية

|

أستاذ هندسة الحاسب في كلية علوم الحاسب والمعلومات بجامعة الملك سعود

لا شك أننا مع فيروسات كورونا «Covid - 19» نعيش حاليا فترة زمنية عصيبة. كائنات أو مكونات لا ترى بالعين المجردة، ولا حتى بالمجاهر العادية، تنقض على الإنسان لتصارعه مستهدفة حياته، لتنجح حينا وتفشل أحيانا؛ لكن خطرها يبقى، خصوصا أنها وباء ينتشر سريعا بالعدوى عبر التقارب بين المصابين وغيرهم. وقد مر الإنسان عبر الزمن بفترات عصيبة من هذا النوع، تزيد وتنقص في قسوتها وخسائرها المادية والاجتماعية والإنسانية. ولعل بين أبرز أمثلة تجارب الإنسان في هذا المجال تجربته مع جراثيم مرض السل أو الدرن Tuberculosis التي تنقض أيضا على الإنسان، إضافة إلى أنها تنتقل أيضا بالعدوى. ويسجل المؤرخون قدم هذا المرض الذي يقال: إن أدلته كانت واضحة على إحدى مومياوات المصريين القدماء الموضوعة في المتحف البريطاني.

على الرغم من قدم مرض السل، إلا أنه لم يتم اكتشاف الكائنات المسببة له حتى عام 1882، حين اكتشفها روبرت كوخ Robert Koch عالم الأحياء الدقيقة Microbiology الألماني الذي حصل على جائزة نوبل في الطب عام 1905. ومع الزمن تم اكتشاف لقاح للمرض وأدوية لمعالجة من يصاب به. لكنه بقي مع ذلك مهددا شرسا لحياة الإنسان، خصوصا في بيئات الحياة غير الصحية التي تؤدي ظروفها إلى ضعف مناعة الإنسان. ووضعت منظمة الصحة العالمية WHO عام 2006 خطة عالمية غايتها دحر السل وإزالة مخاطره.

شملت خطة منظمة الصحة العالمية WHO لدحر السل إرشادات غايتها توجيه سلوك الناس، وبالذات أصحاب العلاقة، من المرضى، ومن يحيط بهم، والمعالجين، وأصحاب القرار بشأن الوقاية منه والاستعداد لمواجهته. واستندت هذه الإرشادات في العمل إلى تحقيق غايتها إلى ثلاثية الدعوة Advocacy والتواصل Communication والتعبئة الاجتماعية Social Mobilization. تتوجه الدعوة، في هذه الثلاثية، إلى الحكومات، والمؤسسات العامة والخاصة، ومنصات الإعلام المختلفة، وأصحاب الرأي المُؤثر، مؤكدة الحاجة إلى الالتزام بمتطلبات العمل على مكافحة المرض.

ويهتم التواصل، في الثلاثية، بالسعي إلى مشاركة الجميع في نشر المعلومات الصحيحة والمفيدة، بشأن التعامل مع المرض، بين الجميع. وتشمل هذه المعلومات: حقائق طبية حول عوارض المرض ومخاطره واكتشافه مبكرا، ومعلومات حول عيادات ومستشفيات التشخيص والعلاج، وما يجب أن يكون عليه سلوك الجميع في هذا المجال. وتأتي التعبئة الاجتماعية، في الثلاثية، لتقضي بتفعيل المسؤولية الاجتماعية وتحقيق التعاون بين جميع جهات المجتمع، بما يشمل المؤسسات والأسر والأفراد، على مكافحة المرض بكل الوسائل الممكنة، عبر حملات جامعة، تخدم المجتمع وتحقق الأمان للجميع.

نحتاج مع فيروسات كورونا الجديدة إلى ثلاثية الدعوة والتواصل والتعبئة الاجتماعية من أجل توجيه سلوك الجميع نحو دحرها والتخلص من مآسيها. العالم اليوم يدافع عن نفسه دفاعا سلبيا يتمثل في العزل المنزلي والتباعد بين الناس لتجنب العدوى؛ ويسعى في الوقت ذاته إلى دفاع إيجابي عبر لقاح أو دواء يتوصل إليه الباحثون في يوم قريب بمشيئة الله. كان هناك تقصير في دعم بحوث الأحياء الدقيقة والفيروسات المتجددة على الرغم من إنذارات الباحثين، كما أشرنا في مقال سابق، ولا شك أن في هذا الأمر درسا للمستقبل بضرورة عدم إهمال أي إنذار علمي؛ لكننا اليوم أمام مواجهة عاجلة تفرض ظلالا قاسية يجب التعامل معها بحكمة، (.. ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا، وما يذكر إلا أولو الألباب).

تقول التوقعات إن معضلة كورونا الجديدة قد تستغرق أشهرا، وربما عاما أو أكثر كي يحقق الدفاع السلبي القائم حاليا نتائج واعدة، وتبدأ معطيات الدفاع الإيجابي في الظهور. خلال هذه الفترة نحتاج إلى ثلاثية الدعوة والتواصل والتعبئة الاجتماعية، كي يكون سلوكنا مناسبا يسهم في انفراج المعضلة. ويضاف إلى ذلك أن انفراج المعضلة، كما تقول التوقعات، لن يأتي حاسما لتعود الأمور كما كانت عليه بين عشية وضحاها، وإنما سيأتي تدريجيا، وربما على مدى فترة طويلة من الزمن. ستفتح أبواب المنازل في البداية لخروج محدود، وستفتح أبواب الوظائف لدخول محدود أيضا، وستتفعل الأعمال التي يمكن تنفيذها إلكترونيا عبر الإنترنت. في هذا الإطار، كثير من عاداتنا يجب أن تتغير، وكثير من أساليب سلوكنا أيضا، الصفوف المتراصة على الطرقات المزدحمة، ستصبح صفوفا متباعدة لما فيه خير الجميع، ولو لحين. ويحتاج كل ذلك أيضا إلى تفعيل ثلاثيتنا وتوجيه سلوكنا نحو الطريق السليم.

هناك وسيلتان رئيستان في إطلاق الثلاثية المطلوبة والعمل على تفعيلها تبعا للتوجهات التي تتطلبها مراحل دحر كورونا والتخلص منها. الوسيلة الأولى هي نشر المعرفة والحقائق الموثقة التي يستند إليها سلوك الجميع المأمول، تبعا لدورهم على المستوى الشخصي، ودورهم على مستوى المجتمع. ولهذه الوسيلة تأثير كبير في أصحاب النظرة الموضوعية للحياة، حيث يأتي سلوكهم Practice نابعا من موقف Attitude يستند إلى معرفة Knowledge. لكن أمثال هؤلاء لا يمثلون كل أبناء المجتمع فهناك من لا يكتفي بالمعرفة لتغيير أنماط سلوكه، وإنما يحتاج إلى سلطة Authority قانونية فاعلة تفرض عليه، عبر المراقبة والمتابعة، الالتزام بما تتطلبه الحاجة، ليست الشخصية فقط؛ بل الاجتماعية أيضا. ويضاف إلى ذلك، استخدام أنظمة التقنية والمتابعة في مراقبة الالتزام وكشف المخالفات وردع المخالفين؛ ويعطي نظام ساهر الخاص بالمخالفات المرورية مثالا مهما على ذلك.

نحتاج إلى ضبط سلوك الإنسان في سعينا إلى دحر كورونا الحديثة؛ ولنا في ثلاثية الدعوة والتواصل والتعبئة الاجتماعية أسلوب مفيد لتحقيق ذلك. يحتاج تفعيل هذا الأسلوب - كما أسلفنا - إلى معرفة موثقة، يجري نشرها، والتداول بشأنها، والقناعة بها، على نطاق واسع، من أجل الالتزام بمضامينها؛ والأمل ألا يحتاج الأمر أيضا إلى سلطة تفرضها، وتقنية تراقبها، منعا لطغيان الهوى، وتحقيقا لمصلحة الجميع. حمى الله الجميع من شرور كورونا.
إنشرها