التنمية المستدامة .. المعرفة المتجددة والاستثمار

عندما نقول إن المعرفة هي المحرك الفاعل للأعمال الصانعة للتنمية المستدامة المطلوبة، فإن هذا القول صحيح، لكن ذلك ليس في المطلق، بل إنه مشروط.  فللمعرفة وظائف عدة، لكل منها شروط مطلوبة كي يتحقق النجاح المنشود. ولعل بالإمكان وضع وظائف المعرفة هذه في إطار دورة متكاملة تشمل ثلاث وظائف رئيسة تستطيع معا دفع عجلة التنمية إلى الأمام.
أولى هذه الوظائف هي الوظيفة المعنية بالتعليم والتدريب ونشر المعرفة، واستيعاب مضامينها، وتقديم قوى عاملة مؤهلة. وتعتمد هذه الوظيفة على معلمين مختصين يستندون إلى ما هو مخزون، بل متاح أيضا من معرفة نظرية وتطبيقية في مجالات تخصصاتهم. وتحتاج هذه الوظيفة إلى إنفاق، تتولاه عادة حكومات الدول من أجل تأهيل أبنائها. وكان لنا، في هذه السلسلة من المقالات المعنية بالتنمية المستدامة، مقال حول التعليم وشؤون تطويره في هذا العصر كي يكون أكثر قدرة على الإسهام في هذه التنمية.
تتضمن الوظيفة الثانية البحث العلمي والاكتشاف والإبداع والابتكار، وتقدم هذه الوظيفة معارف جديدة ومتجددة، ومبتكرات تطبيقية لها، تتمثل في أبحاث يتم نشرها وإتاحتها للجميع، وأخرى تحفظ للاستخدام الخاص، إضافة إلى براءات اختراع يتم تسجيلها من أجل المحافظة على حقوق أصحابها. وتحتاج هذه الوظيفة، كما في سابقتها إلى إنفاق، يقدم عادة ليس من جهات حكومية فقط، بل من القطاع الخاص أيضا الذي يسعى إلى الاستفادة منها عبر توظيفها كما هو موضح في الوظيفة الثالثة المطروحة في التالي. وتجدر الإشارة هنا أيضا إلى أننا طرحنا في مقال سابق من هذه السلسلة شؤون البحث العلمي المعزز بالابتكار.
ونأتي إلى الوظيفة الثالثة المعنية بتوظيف المعرفة والاستفادة منها، بما يشمل توظيف المؤهلين معرفيا وهم مخرجات الوظيفة الأولى، مع توظيف المعرفة الجديدة والمتجددة، الناتجة عن الوظيفة الثانية الخاصة بالبحث العلمي والاكتشاف والإبداع والابتكار. ويمثل هذا التوظيف إسهاما رئيسا في التنمية، بما يشمل توليد الثروة وتشغيل القوى العاملة. ويحتاج توظيف المعرفة الجديدة والمتجددة إلى استثمار في تحويل هذه المعرفة إلى مخرجات تناسب السوق، وتعطي ربحا مرضيا فيه. ويمكن، في إطار هذه الوظيفة الثالثة، التعاون مع خبرات تطبيقية محلية وعالمية، من أجل تعزيز مخرجات هذه الوظيفة وتفعيل قدرتها على العطاء.
المعلم المؤهل هو المنفذ للوظيفة الأولى التي تقدم الإنسان المؤهل معرفيا لقاء مرتب من المؤسسات التعليمية الحكومية أو الخاصة. والباحث هو المنفذ للوظيفة الثانية التي تعطي المعرفة الجديدة القابلة للتطبيق والعطاء، لقاء مكافآت تقدمها المؤسسات البحثية. والمستثمر هو رائد الأعمال الذي يوظف المعرفة، وما تحتاجه من المؤهلين، كي يفعل عطاءها ويجني الأرباح منها. والحصيلة هنا هي أن المعرفة تستطيع أن تكون محركا فاعلا للتنمية المستدامة المطلوبة، ليس عندما تنجح في إطار وظائفها الثلاث، كل على حدة، بل عندما يتكامل هذا النجاح في إطار منظومة معرفية ابتكارية متكاملة تتطلع إلى تفعيل التنمية وتعزيز استدامتها.
التعليم الناجح يسهم في نشر المعرفة المفيدة، خصوصا الحية القابلة للتطبيق، وفي ذلك تعزيز لنجاح البحث العلمي في مثل هذه المعرفة. ونجاح البحث العلمي في تقديم المعرفة الحية المفيدة، يحفز الاستثمار، وريادة الأعمال. لكن رأس المال المطلوب للاستثمار وريادة الأعمال لا يتمتع دائما بالجرأة المطلوبة، خصوصا في مشاريع الأعمال التي تستند إلى معطيات معرفية غير مسبوقة. وهو يلجأ عادة قبل أن يقدم على أي استثمار إلى إعداد دراسات جدوى في الموضوع المطروح. وبالطبع تؤخذ الخبرات المفيدة ذات العلاقة في الحسبان، إلى جانب التعاون مع هذه الخبرات سواء كانت وطنية أو عالمية.
تحتاج التنمية المستدامة إلى استثمارات جريئة تستند في جرأتها إلى دراسات جدوى موضوعية طموحة، تهتم بتقديم إنتاجية مفيدة، تتمتع بترحيب السوق المحلية، وتتطلع إلى احتفاء السوق الدولية أيضا. ويكمن جوهر الأمر بوجود معطيات بحثية معززة بالابتكار، تستند إلى تعليم متميز تقترن فيه المعلومة المفيدة المعطاة بمهارات التفكير. ويبرز هنا دور المنظومة المنشودة التي يجب أن تهتم بكل ما يتعلق بالوظائف المعرفية الثلاث في إطار التوجه نحو التنمية التي تشمل جانبي توليد الثروة وتشغيل القوى العاملة. لدى السعودية مستوى متقدم في التعليم، ولديها أيضا باحثون متميزون، ولدى قطاعها الخاص رأس مال استثماري قادر. ويبرز الأمل هنا في منظومة تستطيع قيادة هذه الثلاثية نحو تفعيل التنمية وتعزيز استدامتها. 

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي