ربط السعادة بحركة النمو

الثروة لا تجلب السعادة وفقا لمفارقة إيسترلين. فالنمو الاقتصادي السريع يجعل الناس يعتقدون ذلك لكن عندما يعتري النمو الضعف وتقل ثروة كثيرين يتبدد هذا الوهم. ويرمي كتاب "الرغبة غير المتناهية في تحقيق النمو"، وهو من تأليف الخبير الاقتصادي الفرنسي الشهير دانييل كوهين، إلى طرح بديل لهذه النتيجة.
وفي الجزء الأول من الكتاب، يدرس كوهين منشأ النمو على مستوى الألفينيات لا القرون أو العقود. وهو يربط بطريقة خلاقة لكنها تكهنية نوعا ما بين منشأ النمو وبداية الزراعة في مواقع جغرافية بعيدة كل البعد عن بعضها بعضا والتوسع السكاني الناجم عن ذلك. وقد حدثت لحظة فارقة في بداية القرن الـ17 عندما بدأت الثورة العلمية في إحلال فكرة التقدم المادي محل الدين، الأمر الذي أدى إلى توليد النمو الاقتصادي الحديث من خلال الثورة الصناعية. ويربط كوهين ضمنا بين هذا الحدث ونشوء رغبة دائمة في تحقيق نمو سريع.
ومنتصف الكتاب هو جزؤه الأكثر ابتكارا وحفزا للفكر. فهذا الجزء المعنون بـ"المستقبل، المستقبل!"، يعرض حجة متسقة تتعلق بضعف النمو في المستقبل. ويبدأ الكتاب باستعراض أوجه التقدم التكنولوجي المقبلة، ويعرض إمكانية تحقيق نمو أبدي. بيد أن ثمة سحابة تخيم على هذه الرؤية المتفائلة، فمن المحتمل أن يترتب على ذلك القضاء على وظائف الطبقة المتوسطة.
وتتوالى الأفكار من خلال مناقشة شاملة لشكوك روبرت جوردون حول مدى تأثير الاختراعات الحديثة في الرفاهية الشاملة. وتتكثف بعرض عملي لكيفية انخفاض النمو وتزايد عدم المساواة في اقتصاد لديه قطاع آلي متكامل الإنتاج للسلع على درجة عالية من الإنتاجية إلى جانب قطاع الخدمات عديم الكفاءة إلى حد بالغ. وهذا التجريد يتسق عموما مع بعض سمات الاقتصادات المتقدمة في نظريات يطرحها خبراء اقتصاد بارزون من قبيل وليام بومول وتوماس بيكيتي ولورانس سامرز. ويختتم هذا الجزء بالقول إن عدم وقف الاحترار العالمي -بسبب مشكلات القيام بعمل جماعي- سيحول دون اتخاذ الاقتصادات النامية سريعة النمو أي إجراء بشأن النمو الاقتصادي الضعيف الذي يتولد عن الاقتصادات المتقدمة.
أما الجزء الأخير من الكتاب فهو محاولة غير مقنعة لتناول آثار النمو الاقتصادي الضعيف بالنسبة للرفاهية ويرى كوهين أنه ليس من الممكن تحقيق مستوى مقبول من السعادة إلا إذا حدث تحول في المجتمعات المنكوبة بنمو اقتصادي ضعيف. وسيتعين أن يكون هذا التحول عميقا لأنه يتطلب اتخاذ مواقف جديدة تجاه التقدم المادي، والعمل، والطبقات الاجتماعية.
وعلاوة على ذلك، تستند حجج رئيسة إلى بيانات من تقرير "السعادة العالمي" الصادر عن الأمم المتحدة، الأمر الذي يعني ضمنا الاعتماد على مقياس نسبي للسعادة من أجل استخلاص استنتاجات بشأن المستويات المطلقة للرفاهية. والفرنسيون قد يحصلون في المتوسط على تقدير منخفض من حيث مستوى سعادتهم، لكن من الصعب إقناعي أن رفاهيتهم مماثلة لرفاهية الناس في معظم دول إفريقيا أو أمريكا الوسطى ومنطقة البحر الكاريبي، حتى إذا كان متوسط تقدير سعادتهم هو تقدير سعادة الآخرين نفسه أو مشابه له.
وقد رأيت أن الجزء الأول من الكتاب مثير للاهتمام، والجزء الأوسط ممتاز وقراءته ممتعة، سواء اتفقت أو لم أتفق مع الحجج التي يطرحها. أما الجزء الأخير من الكتاب فقد كان على العكس من ذلك، كان مخيبا للآمال.