Author

«بريكست» صار حقيقة

|
كاتب اقتصادي [email protected]


"يستحيل التوصل إلى اتفاق تجاري مع بريطانيا في المدة المحددة للمفاوضات"
أورسولا فون لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية

في الساعة الأخيرة من يوم الجمعة المقبل، تنسحب بريطانيا أخيرا من الاتحاد الأوروبي. أولئك الذين يستعدون للاحتفال بهذه المناسبة التاريخية التي لم يفكر فيها أحد قبل ثلاثة أعوام، أرادوا أن تدق ساعة "بيج بن" اللندنية الشهيرة المتوقفة من أجل أعمال الصيانة حتى عام 2021. في إشارة احتفالية استثنائية لعملية الخروج الرسمي النهائي. لكن الذين يعتقدون أن انسحاب بريطانيا "بريكست" من الاتحاد أكبر خطأ في التاريخ الحديث، حاولوا ونجحوا ألا تدق هذه الساعة التاريخية في هذه المناسبة التاريخية أيضا، وذلك حفاظا على مشاعر البريطانيين الذين صوتوا لبقاء بلادهم ضمن الكتلة الأوروبية، واحتراما أيضا لبقية الدول الأعضاء فيها. بوريس جونسون رئيس الحكومة المتحمس لـ"بريكست" بصورة متطرفة قبل حجة الطرف الثاني ورفض أن تدق الساعة في غير وقتها المحدد لها.
ورغم أن المسائل الشكلية ليست مهمة إلا أنها تسبب جروحا وحرجا، والبعض يعتقد أنها تتسبب في الاستفزاز. وسواء دقت "بيج بن" أم ظلت صامتة حتى العام المقبل، فالخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي سيتم في موعده بنهاية الشهر الجاري، بعد تأجيلات عديدة كان سببها الوحيد، أن مجلس العموم البريطاني "البرلمان" كان منقسما، ولم تستطع الحكومة السابقة تمرير اتفاق الخروج المشار إليه. لكن بعد انتخابات عامة نادرة في توقيتها فاز حزب المحافظين بأغلبية ليست مريحة فحسب، بل ساحقة أيضا، وهو أمر لم يكن يحلم به حتى بوريس جونسون. فالناخبون الذين صنعوا هذه النتيجة، هربوا في الواقع من جيرمي كوربين زعيم حزب العمال الذي يعتقد أن انتهاء الحرب الباردة كان خطأ فادحا! باختصار كان هذا الرجل يعيش أوهام الماضي البعيد، وأدخل حزبه في دائرتها.
بتنفيذ صفقة الخروج من الاتحاد، لا تنتهي المشكلات الكبيرة المتعلقة بهذه القضية. فبحسب هذه الصفقة يجب على المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي التوصل إلى اتفاق تجاري مستقبلي بحلول نهاية العام الجاري. وهذا يعني أن الحال سيبقى على ما هو عليه بين الطرفين حتى ذلك الموعد، في الأشهر المتبقية من هذا العام. وإذا كان اتفاق الخروج صعبا من حيث التفاوض حوله وإقراره في برلمان لندن، واستمر أكثر من عامين لإنجازه، فإن المفاوضات الهادفة إلى اتفاق تجاري بين الطرفين لن تكون أسهل بالتأكيد. لماذا؟ لأن الروابط بين الاتحاد وبريطانيا متشعبة، ولأن لندن تريد المنافع الأوروبية وفوائد الاتفاقات الثنائية التي تخطط لها مع بقية الدول في الوقت نفسه ولأن الأوروبيين لن يمنحوا المملكة المتحدة امتيازات لا تستحقها. وفوق كل هذا، لا يبدو على حكومة جونسون أنها حريصة على الاتفاق التجاري مع أوروبا كما هي حريصة على اتفاقاتها الثنائية مع الدول خارج التكتل.
الأوروبيون من جهتهم لا يعتقدون أن مدة 11 شهرا المحددة لإتمام الاتفاق التجاري كافية للوصول إلى صفقة مرضية للطرفين. والبريطانيون عادوا لاستخدام "المعزوفة" السابقة بأن الخروج في نهاية العام سيتم كاملا سواء باتفاق أو بغيره. لكن الأمور لا تمشي هكذا، والدليل على ذلك، هو أن المملكة المتحدة اضطرت لتأجيل تنفيذ اتفاق الخروج عدة مرات، حرصا على العلاقة المستقبلية مع الكتلة الأوروبية، وإن تم ذلك تحت ضغوط الكتل البرلمانية البريطانية الرافضة أصلا لـ"بريكست" بكل أشكاله، أو تلك التي كانت تدعو لخروج متوازن سلس يحفظ العلاقة التاريخية العميقة بين الطرفين. أورسولا فون لاين رئيسة المفوضية الأوروبية التي زارت لندن أخيرا، قالت كلاما دبلوماسيا جميلا عن العلاقة التاريخية بين لندن وبروكسل، لكنها سرعان ما تحدثت عن الواقع المجرد الذي ينسف دبلوماسية الكلام.
ماذا قالت فون لاين؟ العلاقة الجديدة مع بريطانيا لن تكون بوضعها الحالي، نظرا للقيود المنتظر تطبيقها في مجال حرية الحركة والبضائع عبر الحدود. إنها تقول للبريطانيين بـ"لغة" أخرى، لا تتوقعوا امتيازات أو معاملة تجارية خاصة بعد الخروج النهائي. وليس هنا مبالغة في القول، إن المملكة المتحدة ستفقد دخولها المفتوح إلى السوق الأوروبية في حال رفضت تمديد مفاوضات الشراكة إلى ما بعد 2020. هنا يكون اتفاق الطلاق "بريكست" الذي تعثر لكن في النهائي تم تنفيذه، أكثر سهولة من اتفاق الشراكة الذي سيمنح العلاقة بين الطرفين شكلها النهائي. ليس أمام الطرفين اللذين لا يزالان شريكين حتى نهاية العام الجاري إلا المرونة. والتوجه المتشدد الذي تبديه حكومة جونسون سيعيد إلى الساحة حالة العناد التي رافقت اتفاق الانفصال. لكنها في هذه المرحلة تتمتع بالقوة البرلمانية التي تكفل لها في النهائية تمرير ما ترغب من اتفاقات، أو حتى تمرير خروج نهائي من الاتحاد الأوروبي دون اتفاق.
هذه المرة لا توجد منغصات من جانب أنصار أوروبا في بريطانيا، لأنهم بلا قوة تصويتية تذكر. وعندما تهدد الحكومة الراهنة بخروج بلا اتفاق، على الجميع أن يأخذها على محمل الجد. هذه المرة التهديد ليس فقاعة.

إنشرها