البنوك المركزية والسيطرة على التضخم «3 من 3»
كانت الإصلاحات المؤسسية للبنوك المركزية وسيلة رئيسة لجعل الـ15 عاما الماضية أطول فترة لاستقرار الأسعار في أمريكا اللاتينية منذ الخمسينيات. وقد بني هذا الإنجاز على أربع دعائم رئيسة: الاستقلال السياسي والتشغيلي للبنوك المركزية، وخضوع البنوك المركزية للمساءلة، ومرونة أسعار الصرف وانفتاح الحسابات الرأسمالية، وانضباط سياسة المالية العامة.
هل سيؤدي الركود الكبير إلى إثراء النقاش في أمريكا اللاتينية بشأن حقبة جديدة من الصيرفة المركزية كما حدث في الاقتصادات المتقدمة؟ يمكن أن يلقى توسيع اختصاصات البنوك المركزية قبولا كبيرا في أمريكا اللاتينية. فتحمل المسؤولية عن الاستقرار المالي قد يعد تكميلا طبيعيا لدور البنك المركزي القائم باعتباره المقرض الأخير لمنع وقوع أزمات مالية مثل تلك التي وقعت في الماضي. ويرجح اشتراط الاختصاصات الإضافية بشأن الاستقرار المالي أن تصبح البنوك المركزية في أمريكا اللاتينية مسؤولة عن سياسة السلامة الاحترازية الكلية. ويشكل ذلك إصلاحا مؤسسيا معقولا لأنه سيسمح للبلدان بالاستفادة من خبرات البنوك المركزية في تقييم المخاطر الاقتصادية الكلية والمخاطر المالية ويضع قرارات صعبة بشأن السلامة الاحترازية الكلية في أيدي مؤسسة مستقلة سياسيا. إلا أن هناك أيضا تكاليف محتملة. وعلى وجه الخصوص، يمكن اعتبار البنوك المركزية مؤسسات قوية بصورة مفرطة تحكمها سلطات غير منتخبة، بما يمكن أن يعزز الرأي المسمى بالعجز الديمقراطي المستخدم في الماضي لمعارضة استقلالية البنوك المركزية. علاوة على ذلك، فإن استقلالية البنك المركزي يمكن أيضا أن تخضع للتمحيص إذا وقعت أزمة مالية أخرى على الرغم من الاختصاصات الجديدة. ويمكن أيضا أن تضعف مساءلة البنوك المركزية لأن هدف الاستقرار المالي يصعب التعبير عنه بأرقام. والتحدي الذي تواجهه بلدان أمريكا اللاتينية هو تصميم مؤسسات وأطر للسياسات للحفاظ على الاستقرار المالي ولا تقوض مصداقية السياسة النقدية.
أما مبررات جعل البنوك المركزية في أمريكا اللاتينية مسؤولة عن النمو الاقتصادي والعمالة فهي أقل وضوحا. فليس بإمكان البنوك المركزية أن تؤثر باتساق في النمو الاقتصادي والعمالة، نظرا لأن نشاطها الاقتصادي يعتمد بدرجة كبيرة على عوامل خارجية “كالطلب على السلع الأولية” في الأجل القريب ويرتكز على تغيرات هيكلية لتعزيز الإنتاجية ودعم العمالة في الأجل البعيد. ولذلك فإن إضافة عنصري النمو والعمالة إلى مجال مسؤوليات البنوك المركزية يمكن أن يهدد فعالية السياسة النقدية ومن شأنه أن يجعل عملية المساءلة معقدة، ولا سيما إذا كان التضخم والنمو هدفين متعارضين.
وكبديل لذلك، قام بالفعل عدد من البنوك المركزية في أمريكا اللاتينية بإسناد ثقل أكبر للناتج عند إعدادها حسابات السياسات، دون توسيع نطاق اختصاصها بصورة صريحة. وهي تهدف إلى تمهيد التقلبات الدورية في الأجل القريب لمساعدة العمالة وحماية الاستقرار المالي.
لقد استغرقت البنوك المركزية في أمريكا اللاتينية 80 عاما لتحقيق مستويات منخفضة ومستقرة من التضخم، وهو ما حسن الرعاية الاجتماعية في بلدانها. وقد كانت رحلة طويلة مليئة بالصعوبات جربت فيها البنوك المركزية اختصاصات وسياسات مختلفة بينما شهدت بلدان كثيرة فترات طويلة من التضخم المرتفع ولن تعني تطورات المستقبل بالضرورة العودة إلى مستويات التضخم المرتفعة أو حتى المرتفعة بصورة هائلة، لكن يخشى أن يؤدي تكليف البنوك المركزية مسؤوليات لا تستطيع الوفاء بها فعليا إلى تقويض استقلاليتها السياسية ومصداقيتها التي نالتها بمشقة.
وستكون النتيجة في تلك الحال تحقيق استقرار الأسعار بتكلفة هي زيادة أسعار الفائدة وخفض النمو الاقتصادي.