البنوك المركزية والسيطرة على التضخم «2 من 3»

كان من الضروري في بادئ الأمر توسيع الميزانيات العمومية للبنوك المركزية لإعادة اقتصادات أمريكا اللاتينية من على حافة الانهيار أثناء الركود الكبير، أصبحت المصارف تدمن تمويل إنفاقها من البنوك المركزية. وأدى التوسع النقدي المتضمن في تمويل مصروفات الحكومة في نهاية المطاف إلى نثر بذور التضخم المرتفع في أمريكا اللاتينية.
وصادقت أمريكا اللاتينية على نظام بريتون وودز، المنشأ عام 1945 الذي التزمت فيه البلدان بالحفاظ على سعر صرف ثابت لكن قابل للتعديل بدعم من شبكة معززة من الضوابط الرأسمالية. وفي الوقت نفسه تغيرت مجالات المسؤولية للبنوك المركزية بدرجة هائلة مع شروع الحكومات في الاضطلاع بدور حاسم في صياغة السياسة النقدية. وتضاعفت اختصاصات البنوك المركزية. وأصبحت الاختصاصات الشاملة المتصلة بالسياسات هي تنظيم النقد، وتعزيز العمالة في الأرجنتين، وتعزيز التطوير المنظم للاقتصاد في تشيلي وكولومبيا وبيرو. وكلف بنك المكسيك بصياغة السياسة النقدية وسياسة الائتمان وسياسة أسعار الصرف، وتحقيق ثلاثة أهداف هي: تعزيز استقرار القوة الشرائية للنقود، وتطوير النظام المالي، وتحقيق معدلات جيدة للنمو الاقتصادي. وفي الواقع العملي تحولت البنوك المركزية إلى بنوك تنمية وأخذت تمويل قطاعات الزراعة والصناعة والإسكان وكذلك العجز الحكومي. وكانت النتيجة النهائية هي زيادة التضخم.
وثبت أن تمويل البنوك المركزية للتنمية الاقتصادية لا يتسق مع الحفاظ على سعر صرف ثابت. وأدى تراخي السياسات النقدية إلى تعزيز الطلب الكلي، لكن تسبب أيضا في عجز في الحساب الجاري انتقص من الاحتياطيات الدولية، وهو ما أدى إلى وقوع أزمات في العملة وارتفاع التضخم في نهاية المطاف، كما حدث في البرازيل وتشيلي.
وعقب انهيار نظام بريتون وودز في أوائل السبعينيات وتزايد مرونة أسعار الصرف في مختلف بلدان العالم، تدهور انعدام الاستقرار الاقتصادي الكلي في أمريكا اللاتينية إلى جانب الاضطرابات السياسية. وكانت فترة انتقالية جديدة قد بدأت للبنوك المركزية مع تعديل السياسة النقدية ببساطة لمواءمة التضخم المتزايد، واستيعاب الأسعار بدلا من مقاومتها بتقييد كمية النقود المتاحة. لكن لم يمض وقت طويل على انهيار نظام بريتون وودز حتى أدى ارتفاع حاد في أسعار النفط إلى تغيير الأمور تغييرا كليا.
وارتفعت كمية النقد المتداول في النظام المالي الدولي بصورة حادة مع قيام البلدان المصدرة للنفط بالاستثمار في الثروة الجديدة التي عثرت عليها. ووجدت كميات كبيرة من البترودولارات طريقها إلى أمريكا اللاتينية. ووفرت هذه التدفقات الرأسمالية الداخلية قدرا كبيرا من التمويل الخارجي للمنطقة كان أغلبه في صورة قروض مصرفية مقومة بالدولار. غير أن مصدر التمويل هذا لم يدم طويلا. فبحلول أوائل الثمانينيات، تحولت التدفقات الرأسمالية الداخلية إلى تدفقات خارجة بسبب تشديد السياسة النقدية "وارتفاع أسعار الفائدة" في الاقتصادات المتقدمة في وقت كانت فيه معظم بلدان أمريكا اللاتينية قد سجلت حالات عجز كبيرة في الميزانيات، واختلالات في الحسابات الجارية، وديونا أجنبية. وتسببت هذه الحالة في حدوث خفض كبير في قيم العملات، وهو ما جعل من الصعب سداد خصوم الشركات والمصارف والحكومات المقومة بالدولار ودفع التضخم إلى مستويات مرتفعة للغاية. وخلال هذا العقد استوعبت السياسة النقدية ارتفاع التضخم.
كانت التسعينيات نقطة تحول في السياسة النقدية في أمريكا اللاتينية. فبعد مرور أكثر من 50 عاما على إثقال البنوك المركزية بأهداف متعددة، قامت الحكومات بمنحها استقلالية سياسية وتشغيلية تسمح لهذه المؤسسات بالتركيز بالدرجة الأولى وأحيانا بشكل حصري على احتواء التضخم. وشيئا فشيئا، قبلت البلدان بأن المساهمة الرئيسة للسياسة النقدية في النمو الاقتصادي تتمثل في تحقيق مستويات منخفضة ومستقرة من التضخم والحفاظ عليها لأن ذلك يحد من عدم اليقين في اتخاذ القرارات، لدى المستهلكين والمستثمرين.
وبدأت تشيلي هذا الاتجاه عام 1989، وفي العقد التالي وافقت معظم بلدان أمريكا اللاتينية على قوانين جديدة كانت استقلالية البنوك المركزية تشكل فيها الدعامة الأساسية للإصلاحات وذلك لتجنب التحيز التضخمي من التأثيرات السياسية على السياسة النقدية. وفي إجراء للتخلي عن الماضي جرى تقييد التمويل الحكومي المصدر الأساسي التاريخي للتضخم بل ومنعه. وبدأت البلدان أيضا، في معظم الحالات، تطبق مرونة سعر الصرف للسماح لسعر الصرف باستيعاب الصدمات الخارجية. وإضافة إلى ذلك، شرع عدد كبير من البلدان بدءا من النصف الثاني من الثمانينيات في إصلاح هياكل اقتصاداتها لزيادة توجيهها نحو السوق. وساعدت أيضا تلك التغيرات الهيكلية -مثل إصلاح التجارة، الذي فتح الاقتصادات أمام التنافس الخارجي- على الحد من التضخم.
ومع تراجع التضخم إلى خانة واحدة أواخر التسعينيات وبداية الألفينيات جعلت البرازيل وتشيلي وكولومبيا والمكسيك وبيرو استهداف التضخم إطارا لسياساتها، أي إجراء السياسة النقدية عادة بتعديل أسعار الفائدة لديها في الأجل القريب لبيان موقف السياسة النقدية ودفع التوقعات التضخمية إلى هدف التضخم المعلن سلفا. وزادت بمرور الوقت مصداقية نظم استهداف التضخم مع وفاء البنوك المركزية بوعودها. وأدى بناء المصداقية إلى تعزيز فعالية السياسة النقدية، مع قيام المشاركين في الأسواق بإبقاء التوقعات التضخمية متوائمة مع أهداف البنوك المركزية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي